أخبار القرامطة وأخذهم الحاج
في سنة أربع وتسعين ومائتين ، في المحرم ، ارتحل زكرويه من نهر المثنية يريد الحاج ، فبلغ السلمان ، وأقام ينتظرهم ، فبلغت القافلة الأولى واقصة سابع المحرم ، فأنذرهم أهلها وأخبروهم بقرب القرامطة ، فارتحلوا لساعتهم .
وسار القرامطة إلى واقصة ، فسألوا أهلها عن الحاج ، فأخبروهم أنهم ساروا ، فاتهمهم زكرويه ، فقتل العلافة ، وأحرق العلف ، وتحصن أهل واقصة في حصنهم ، فحصرهم أياما ، ثم ارتحل عنهم نحو زبالة ، وأغار في طريقه على جماعة من بني أسد .
ووصلت العساكر المنفذة من بغداذ إلى عيون الطف ، فبلغهم مسير زكرويه من السلمان ، فانصرفوا ، وسار علان بن كشمرد جريدة ، فنزل واقصة بعد أن جازت القافلة الأولى .
ولقي زكرويه القرمطي قافلة الخراسانية بعقبة الشيطان راجعين من مكة ، فحاربهم حربا شديدة ، فلما رأى شدة حربهم سألهم : هل فيكم نائب للسلطان ؟ فقالوا : ما معنا أحد ، قال : فلست أريدكم .
فاطمأنوا وساروا ، فلما ساروا أوقع بهم ، وقتلهم عن آخرهم ، ولم ينج إلا الشريد ، وسبوا من النساء ما أرادوا ، وقتلوا منهن .
وكانت
نساء القرامطة يطفن بين القتلى من الحجاج بالماء صفة أنهن يسقين الجرحى فمن كلمهن من الجرحى قتلنه وأجهزن عليه لعنهن الله وقبح أزواجهن . ولقي بعض المنهزمين علان بن كشمرد ، فأخبروه خبرهم ، وقالوا له : ما بينك وبينهم إلا القليل ، ولو رأوك لقويت نفوسهم ، فالله الله فيهم ! فقال : لا أعرض أصحاب السلطان للقتل ، ورجع هو وأصحابه .
وكتب من نجا من الحجاج من هذه القافلة الثانية إلى رؤساء القافلة الثالثة من الحجاج يعلمونهم ما جرى من القرامطة ، ويأمرونهم بالتحذر ، والعدول عن الجادة نحو واسط والبصرة ، والرجوع إلى فيد والمدينة إلى أن تأتيهم جيوش السلطان ، فلم يسمعوا ، ولم يقيموا .
وسارت القرامطة من العقبة بعد أخذ الحاج ، وقد طموا الآبار والبرك بالجيف ، والتراب ، بواقصة ، والثعلبية ، والعقبة ، وغيرها من المناهل في جميع طريقهم .
وأقام [ زكرويه ] بالهبير ينتظر القافلة الثالثة ، فساروا فصادفوه هناك ، فقاتلهم زكرويه ثلاثة أيام ، وهم على غير ماء ، فاستسلموا لشدة العطش ، فوضع فيهم السيف وقتلهم عن آخرهم ، وجمع القتلى كالتل ، وأرسل خلف المنهزمين من يبذل لهم الأمان ، فلما رجعوا قتلهم ، وكان في القتلى مبارك القمي ، وولده أبو العشائر بن حمدان .
وقيل إن عدة القتلى بلغت عشرين ألفا ، ولم ينج إلا من كان بين القتلى فلم يفطن له فنجا بعد ذلك ، ومن هرب عند اشتغال القرامطة بالقتل والنهب ، فكان من مات من هؤلاء أكثر ممن سلم ومن استعبدوه ، وكان مبلغ ما أخذوه من هذه القافلة ألفي ألف دينار .
وكان في جملة ما أخذوا فيها أموال الطولونية وأسبابهم ، فإنهم لما عزموا على الانتقال من مصر إلى بغداذ خافوا أن يستصحبوها فتؤخذ منهم ، فعملوا الذهب والنقرة سبائك ، وجعلوها في حدائج الجمال ، وجميع ما لهم من الحلي والجوهر ، وسيروا الجميع إلى مكة سرا ، وسار من مكة في هذه القافلة فأخذت .
وبث زكرويه الطلائع خوفا من عسكر الخليفة الذي كان بالقادسية ، وأقام ينتظر وصول من كان في الحج من عسكر الخليفة وأصحابه ، فكانوا بفيد ينتظرون هل تعرض القرامطة للحاج أم لا ، فكان معهم جماعة من التجار أرباب الأموال ، فلما بلغهم ما صنع القرامطة أقاموا ينتظرون وصول عسكر من عند الخليفة ، فسار زكرويه إليهم
وغور الآبار ، والمصانع ، والمياه إلى فيد ، فاحتمى أهل فيد ومن بها من الحجاج بالحصنين اللذين بفيد وحصرهم فيهما القرامطة ، وأرسل زكرويه إلى أهل فيد يأمرهم بإخراجهم أو بتسليم الحصنين إليه ، وبذل لهم الأمان على ذلك ، فلم يجيبوه ، فتهددهم بالنهب والقتل ، فازداد امتناعهم ، وأقام عليهم عدة أيام ، ثم سار إلى النباج ثم إلى حفير أبي موسى . مقتل زكرويه
قتل زكرويه لعنه الله
لما فعل زكرويه بالحجاج ما ذكرناه عظم ذلك على الخليفة خاصة ، وعلى جميع المسلمين عامة ، فجهز المكتفي الجيوش ، فلما كان أول ربيع الأول سير وصيف بن صوارتكين مع جماعة من القواد والعساكر إلى القرامطة ، فسار على طريق حفان ، فلقيهم زكرويه ، ومن معه من القرامطة ، ثامن ربيع الأول ، فاقتتلوا يومهم ، ( ثم حجز بينهم الليل ، وباتوا يتحارسون ، ثم بكروا للقتال ، فاقتتلوا قتالا شديدا ) ، فقتل من القرامطة مقتلة عظيمة .
ووصل عسكر الخليفة إلى عدو الله زكرويه ، فضربه بعض الجند وهو مول بالسيف على رأسه ، فبلغت الضربة دماغه ، وأخذه أسيرا ، وأخذ خليفته وجماعة من خواصه وأقربائه ، وفيهم ابنه ، وكاتبه ، وزوجته ، واحتوى الجند على ما في العسكر .
وعاش زكرويه خمسة أيام ومات ، فسيرت جيفته والأسرى إلى بغداذ ، وانهزم جماعة من أصحابه إلى الشام ، فأوقع بهم الحسين بن حمدان ، فقتلوهم جميعا ، وأخذوا جماعة من النساء والصبيان ، وحمل رأس زكرويه إلى خراسان ، لئلا ينقطع الحجاج ، وأخذ الأعراب رجلين من أصحاب زكرويه يعرف أحدهما بالحداد ، والآخر بالمنتقم ، وهو أخو امرأة زكرويه ، كانا قد سارا إليهم يدعوانهم إلى الخروج معهم ، فلما
أخذوهما سيروهما إلى بغداذ ، وتتبع الخليفة القرامطة بالعراق ، فقتل بعضهم ، وحبس بعضهم ، ومات بعضهم في الحبس .