ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة

ذكر مسير الراضي بالله إلى حرب البريدي

في هذه السنة أشار محمد بن رائق على الراضي بالله بالانحدار معه إلى واسط ليقرب من الأهواز ، ويراسل أبا عبد الله بن البريدي ، فإن أجاب إلى ما يطلب منه ، وإلا قرب قصده عليه ، فأجاب الراضي إلى ذلك ، وانحدر أول المحرم ، فخالف الحجرية وقالوا : هذه حيلة علينا ليعمل بنا مثل ما عمل بالساجية ، فلم يلتفت ابن رائق إليهم ، وانحدر وتبعه بعضهم ، ثم انحدروا بعده ، فلما صاروا بواسط ، اعترضهم ابن رائق ، فأسقط أكثرهم ، فاضطربوا وثاروا ، فقاتلهم قتالا شديدا ، فانهزم الحجرية ، وقتل منهم جماعة .

ولما وصل المنهزمون إلى بغداذ ، ركب لؤلؤ صاحب الشرطة ببغداذ ولقيهم ، فأوقع بهم فاستتروا ، فنهبت دورهم ، وقبضت أموالهم وأملاكهم ، وقطعت أرزاقهم .

فلما فرغ منهم ابن رائق ، قتل من كان اعتقله من الساجية سوى صافي الخازن ، وهارون بن موسى ، فلما فرغ ، أخرج مضاربه ومضارب الراضي نحو الأهواز لإجلاء ابن البريدي عنها ، فأرسل إليهم في معنى تأخير الأموال ، وما قد ارتكبه من الاستبداد بها وإفساد الجيوش وتزيين العصيان لهم ، إلى غير ذلك من ذكر معايبه ، ثم يقول بعد ذلك : وإنه إن حمل الواجب عليه وسلم الجند الذين أفسدهم أقر على عمله ، وإن أبى قوبل بما استحقه .

فلما سمع الرسالة جدد ضمان الأهواز ، كل سنة بثلاثمائة وستين ألف دينار ، يحمل كل شهر بقسطه ، وأجاب إلى تسليم الجيش إلى أن يؤمر بتسليمه إليه ممن يسير بهم إلى قتال ابن بويه ، إذ كانوا كارهين للعود إلى بغداذ لضيق الأموال بها واختلاف الكلمة ، فكتب الرسل ذلك إلى ابن رائق ، فعرضه على الراضي ، وشاور فيه أصحابه ، فأشار الحسين بن علي النوبختي بأن لا يقبل منه ذلك ، فإنه خداع ومكر للقرب منه ، ومتى عدتم عنه لم يقف على ما بذله .

وأشار أبو بكر بن مقاتل بإجابته إلى ما التمس من الضمان ، وقال : إنه لا يقوم غيره مقامه ، وكان يتعصب للبريدي ، فسمع قوله وعقد الضمان على البريدي ، وعاد هو والراضي إلى بغداذ ، فدخلاها ثامن صفر .

فأما المال فما حمل منه دينارا واحدا ، وأما الجيش فإن ابن رائق أنفذ جعفر بن ورقاء ليتسلمه منه وليسير إلى فارس ، فلما وصل إلى الأهواز لقيه ابن البريدي في الجيش جميعه ، ولما عاد سار الجيش مع البريدي إلى داره واستصحب معه جعفرا وقدم لهم طعاما كثيرا ، فأكلوا وانصرفوا ، وأقام جعفر عدة أيام .

ثم إن جعفرا أمر الجيش فطالبوه بمال يفرقه فيهم ليتجهزوا به إلى فارس ، فلم يكن معه شيء ، فشتموه وتهددوه بالقتل ، فاستتر منهم ولجأ إلى البريدي ، وقال ( له البريدي ) : ليس العجب ممن أرسلك ، وإنما العجب منك كيف جئت بغير شيء ، فلو أن الجيش مماليك لما ساروا إلا بمال ترضيهم به ، ثم أخرجه ليلا ، وقال : انج بنفسك ، فسار إلى بغداذ خائبا .

ثم إن ابن مقاتل شرع مع ابن رائق في عزل الحسين بن علي النوبختي وزيره ، وأشار عليه بالاعتضاد بالبريدي ، وأن يجعله وزيرا له عوض النوبختي ، وبذل له ثلاثين ألف دينار ، فلم يجبه إلى ذلك ، فلم يزل ابن مقاتل يسعى ويجتهد إلى أن أجابه إليه ، فكان من أعظم الأسباب في بلوغ ابن مقاتل غرضه أن النوبختي كان مريضا ، فلما تحدث ابن مقاتل مع ابن رائق في عزله امتنع من ذلك ، وقال : له علي حق كثير ، هو الذي سعى لي حتى بلغت هذه الرتبة ، فلا أبتغي به بديلا .

فقال ابن مقاتل : فإن النوبختي مريض لا مطمع في عافيته .

قال له ابن رائق : فإن الطبيب قد أعلمني أنه قد صلح وأكل الدراج .

فقال : إن الطبيب يعلم منزلته منك ، وأنه وزير الدولة ، فلا يلقاك في أمره بما تكره ، ولكن أحضر ابن أخي النوبختي وصهره علي بن أحمد ، واسأله عنه سرا ، فهو يخبرك بحاله . فقال : أفعل .

وكان النوبختي قد استناب ابن أخيه هذا عند ابن رائق ليقوم بخدمته في مرضه ، ثم إن ابن مقاتل فارق ابن رائق على هذا ، واجتمع بعلي بن أحمد وقال له : قد قررت لك مع الأمير ابن رائق الوزارة ، فإذا سألك عن عمك ، فأعلمه أنه على الموت ولا يجيء منه شيء لتتم لك الوزارة .

فلما اجتمع ابن رائق بعلي بن أحمد سأله عن عمه ، فغشي عليه ، ثم لطم برأسه ووجهه ، وقال : يبقي الله الأمير ويعظم أجره فيه ، فلا يعده الأمير إلا في الأموات ، فاسترجع وحوقل ، وقال : لو فدي بجميع ما أملكه لفعلت .

فلما حضر عنده ابن مقاتل ، قال له ابن رائق : قد كان الحق معك ، وقد يئسنا من النوبختي ، فاكتب إلى البريدي ليرسل من ينوب عنه في وزارتي ، ففعل وكتب إلى البريدي ( بإنفاذ أحمد بن علي ) الكوفي لينوب عنه في وزارة ابن رائق ، فأنفذه ، فاستولى على الأمور ، وتمشى حال البريدي بذلك ، فإن النوبختي كان عارفا به لا يتمشى معه محاله .

فلما استولى الكوفي وابن مقاتل ، شرعا في تضمين البصرة من أبي يوسف بن البريدي أخي عبد الله ، فامتنع ابن رائق من ذلك ، فخدعاه إلى أن أجاب إليه ، وكان نائب ابن رائق بالبصرة محمد بن يزداد ، وقد أساء السيرة وظلم أهلها ، ( فلما ضمنها البريدي ، حضر عنده بالأهواز جماعة من أعيان أهلها ) فوعدهم ومناهم ، وذم ابن رائق عندهم بما كان يفعله ابن يزداد ، فدعوا له .

ثم أنفذ البريدي غلامه إقبالا في ألفي رجل ، وأمرهم بالمقام بحصن مهدي إلى أن يأمرهم بما يفعلون ، فلما علم ابن يزداد بهم ، قامت قيامته من ذلك ، وعلم أن البريدي يريد التغلب على البصرة ، وإلا لو كان يريد التصرف في ضمانه ، لكان يكفيه عامل في جماعته .

وأمر البريدي بإسقاط بعض ما كان ابن يزداد يأخذه من أهل البصرة ، حتى اطمأنوا ، وقاتلوا معه عسكر ابن رائق ، ثم عطف عليهم ، فعمل بهم أعمالا تمنوا [ معها ] أيام ابن رائق وعدوها أعيادا .

التالي السابق


الخدمات العلمية