ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة

ذكر وفاة ركن الدولة وملك عضد الدولة

في هذه السنة ، في المحرم ، توفي ركن الدين أبو علي الحسن بن بويه ، واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة ، وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه معز الدولة ، وكان ابنه عضد الدولة قد عاد من بغداذ ، بعد أن أطلق بختيار على الوجه الذي ذكرناه .

وظهر عند الخاص والعام غضب والده عليه ، فخاف أن يموت أبوه وهو على حال غضبه ( فيختل ملكه ، وتزول طاعته ) ، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد ، وزير والده ، يطلب منه أن يتوصل مع أبيه وإحضاره عنده ، وأن يعهد إليه بالملك بعده . فسعى أبو الفتح في ذلك ، فأجابه إليه ركن الدولة ، وكان قد وجد في نفسه خفة ، فسار من الري إلى أصبهان ، فوصلها في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلاثمائة ، وأحضر ولده عضد الدولة من فارس ، وجمع عنده أيضا سائر أولاده بأصبهان ، فعمل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها ركن الدولة وأولاده ، والقواد والأجناد .

فلما فرغوا من الطعام عهد ركن الدولة إلى ولده عضد الدولة بالملك ، وجعل لولده فخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل ، ولولده مؤيد الدولة أصبهان وأعماله ، وجعلهما في هذه البلاد بحكم أخيهما عضد الدولة . -

وخلع ( عضد الدولة ) على سائر الناس ، ذلك اليوم ، الأقبية والأكسية على زي الديلم ، وحياه القواد وإخوته بالريحان على عادتهم مع ملوكهم ، وأوصى ركن الدولة أولاده بالاتفاق وترك الاختلاف ، وخلع عليهم .

ثم سار عن أصبهان في رجب نحو الري ، فدام مرضه إلى أن توفي ، فأصيب به الدين والدنيا جميعا لاستكمال جميع خلال الخير فيه ، وكان عمره قد زاد على سبعين سنة ، وكانت إمارته أربعا وأربعين سنة . ذكر بعض سيرته

كان حليما ، كريما واسع الكرم ، كثير البذل ، حسن السياسة لرعاياه وجنده ، رءوفا بهم ، عادلا في الحكم بينهم ، وكان بعيد الهمة ، عظيم الجد والسعادة ، متحرجا من الظلم ، مانعا لأصحابه منه ، عفيفا عن الدماء ، يرى حقنها واجبا إلا فيما لا بد منه ، وكان يحامي على أهل البيوتات ، وكان يجري عليهم الأرزاق ، ويصونهم عن التبذل ، وكان يقصد المساجد الجامعة ، في أشهر الصيام ، للصلاة ، وينتصب لرد المظالم ، ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة ، ويتصدق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات ، ويلين جانبه للخاص والعام .

قال له بعض أصحابه في ذلك ، ، وذكر له شد مرداويج ، فقال : انظر كيف اخترم ، ووثب عليه أخص أصحابه به ، وأقربهم منه لعنفه وشدته ، وكيف عمرت ، وأحبني الناس للين جانبي .

وحكي عنه أنه سار في سفر ، فنزل في خركاة قد ضربت له قبل أصحابه ، وقدم إليه طعام ، فقال لبعض أصحابه : لأي قيل في المثل : خير الأشياء في القرية الإمارة ؟ فقال صاحبه : لقعودك في الخركاة ، وهذا الطعام بين يديك ، وأنا لا خركاة ولا طعام ، فضحك وأعطاه الخركاة والطعام ، فانظر إلى هذا الخلق ما أحسنه وما أجمله .

وفي فعله في حادثة بختيار ما يدل على كمال مروءته وحسن عهده ، وصلته لرحمه - رضي الله عنه - ( وأرضاه ، وكان له حسن عهد ومودة وإقبال ) . ذكر مسير عضد الدولة إلى العراق

في هذه السنة تجهز عضد الدولة وسار يطلب العراق لما كان يبلغه عن بختيار وابن بقية من استمالة أصحاب الأطراف كحسنويه الكردي ، وفخر الدولة بن ركن الدولة ، وأبي تغلب بن حمدان ، وعمران بن شاهين ، وغيرهم والاتفاق على معاداته ، ولما كانا يقولانه من الشتم القبيح له ، ولما رأى من حسن العراق وعظم مملكته غير ذلك .

وانحدر بختيار إلى واسط على عزم محاربة عضد الدولة ، وكان حسنويه وعده أنه يحضر بنفسه لنصرته ، وكذلك أبو تغلب بن حمدان ، فلم يف له واحد منهما .

ثم سار بختيار إلى الأهواز ، أشار بذلك ابن بقية ، وسار عضد الدولة من فارس نحوهم ، فالتقوا في ذي القعدة واقتتلوا ، فخامر على بختيار بعض عسكره ، وانتقلوا إلى عضد الدولة ، فانهزم بختيار ، وأخذ ماله ومال ابن بقية ، ونهبت الأثقال وغيرها ، ولما وصل بختيار إلى واسط حمل إليه ابن شاهين صاحب البطيحة مالا ، وغير ذلك من الهدايا النفيسة ، ودخل بختيار إليه ، فأكرمه ، وحمل مالا جليلا ، وأعلاقا نفيسة ، وعجب الناس من قول عمران : إن بختيار سيدخل منزلي وسيستجير بي ، فكان كما ذكر ، ثم أصعد بختيار إلى واسط .

وأما عضد الدولة فإنه سير إلى البصرة جيشا فملكوها . وسبب ذلك أن أهلها اختلفوا ، وكانت مضر تهوى عضد الدولة ، وتميل إليه لأسباب قررها معهم ، وخالفتهم ربيعة ، ومالت إلى بختيار ، فلما انهزم ضعفوا ، وقويت مضر ، وكاتبوا عضد الدولة ، وطلبوا منه إنفاذ جيش إليهم ، فسير جيشا تسلم البلد وأقام عندهم .

وأقام بختيار بواسط ، وأحضر ما كان له ببغداذ والبصرة من مال وغيره ففرقه ( في أصحابه ) ، ثم إنه قبض على ابن بقية لأنه اطرحه واستبد بالأمور دونه ، وجبى الأموال إلى نفسه ، ولم يوصل إلى بختيار منها شيئا ، وأراد أيضا التقرب إلى عضد الدولة بقبضه لأنه هو الذي كان يفسد الأحوال بينهم .

ولما قبض عليه أخذ أمواله ففرقها ، وراسل عضد الدولة في الصلح ، وترددت الرسل بذلك ، وكان أصحاب بختيار يختلفون عليه ، فبعضهم يشير به ، وبعضهم ينهى عنه ، ثم إنه أتاه عبد الرزاق وبدر ابنا حسنويه في نحو ألف فارس معونة له ، فلما وصلا إليه أظهر المقام بواسط ومحاربة عضد الدولة . فاتصل بعضد الدولة أنه نقض الشرط ، ثم بدا لبختيار في المسير ، فسار إلى بغداذ ، فعاد عنه ابنا حسنويه إلى أبيهما ، وأقام بختيار ببغداذ وانقضت السنة وهو بها ، وسار عضد الدولة إلى واسط ، ثم سار منها إلى البصرة ، فأصلح بين ربيعة ومضر ، وكانوا في الحروب والاختلاف نحو مائة وعشرين سنة .

ومن عجيب ما جرى لبختيار في هذه الحادثة أنه كان له غلام تركي يميل إليه ، فأخذ في جملة الأسرى ، وانقطع خبره عن بختيار ، فحزن لذلك ، وامتنع من لذاته والاهتمام بما رفع إليه من زوال ملكه وذهاب نفسه ، حتى قال على رءوس الأشهاد : إن فجيعتي بهذا الغلام أعظم من فجيعتي بذهاب ملكي ، ثم سمع أنه في جملة الأسرى ، فأرسل إلى عضد الدولة يبذل له ما أحب في رده إليه ، فأعاده عليه ، وسارت هذه الحادثة عنه ، فازداد فضيحة وهوانا عند الملوك وغيرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية