ذكر
الخطبة للمصريين العلويين بالكوفة والموصل
فمن الحوادث فيها :
أنه ورد الخبر بأن أبا المنيع قرواش بن المقلد جمع أهل الموصل وأظهر عندهم طاعة الحاكم صاحب مصر وعرفهم ما عزم عليه من إقامة الدعوة له ودعاهم إلى قبول ذلك ، فأجابوه جواب الرعية المملوكة وأسروا الإباء والكراهية ، وأحضر الخاطب في يوم الجمعة الرابع من المحرم ، فخلع عليه وأعطاه النسخة ما يخطب به ، فكانت :
"الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وله الحمد الذي انجلت بنوره غمرات الغضب ، وانقدت بقدرته أركان النصب ، وأطلع بنوره شمس الحق من الغرب الذي محا بعدله جور الظلمة وقصم بقوته ظهر الغشمة فعاد الأمر إلى نصابه ، والحق إلى أربابه البائن بذاته المتفرد بصفاته الظاهر بآياته المتوحد بدلالاته ، لم تفته الأوقات فتسبقه الأزمنة ، ولم تشبهه الصور فتحويه الأمكنة ، ولم تره العيون فتصفه الألسنة ، سبق كل موجود وجوده ، وفات كل جود جوده ، واستقر في كل عقل توحيده ، وقام في كل مرأى شهيده ، أحمده بما يجب على أوليائه الشاكرين تحميده ، وأستعينه على القيام بما يشاء ويريده ، وأشهد له بما شهد أصفياؤه وشهوده ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يشوبها دنس الشرك ، ولا يعتريها وهم الشك ، خالصة من الإدهان ، قائمة بالطاعة والإذعان ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه اصطفاه واختاره لهداية الخلق ، وإقامة الحق ، فبلغ الرسالة ، وهدى من الضلالة والناس حينئذ عن التقوى غافلون ، وعن سبيل الحق ضالون ، فأنقذهم من عبادة الأوثان ، وأمرهم بطاعة الرحمن حتى قامت حجج الله وآياته ، وتمت بالتبليغ كلماته صلى الله عليه وعلى أول مستجيب له على أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، أساس الفضل والرحمة ، وعماد العلم والحكمة ، وأصل الشجرة الكرام البررة النابتة في الأرومة المقدسة المطهرة ، وعلى خلفائه الأغصان البواسق من تلك الشجرة ، وعلى ما خلص منها وزكا من الثمرة .
أيها الناس اتقوا الله حق تقاته ، وارغبوا في ثوابه ، واحذروا من عقابه فقد ترون ما يتلى عليكم في كتابه ، قال الله تعالى :
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم . وقال :
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . فالحذر الحذر أيها الناس ، فكأن قد أفضت بكم الدنيا إلى الآخرة ، وقد بان أشراطها ولاح سراطها ومناقشة حسابها والعرض على كتابها :
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره - 8 .
اركبوا سفينة نجائكم قبل أن تغرقوا ،
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واعلموا أنه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ، وأنيبوا إلى الله خير الإنابة ، وأجيبوا داعي باب الإجابة قبل أن تقول نفس
يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول :
لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب :
لو أن لي كرة فأكون من المحسنين .
تيقظوا من الغفلة والفترة قبل الندامة والحسرة وتمني الكرة والتماس الخلاص ولات حين مناص ، وأطيعوا إمامكم ترشدوا ، وتمسكوا بولاة العهد تهتدوا ، فقد نصب لكم علما لتهدوا به ، وسبيلا لتقتدوا به ، جعلنا الله وإياكم ممن تبع مراده ، وجعل الإيمان زاده والهمة تقواه ورشاده ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين" .
ثم جلس وقام فقال : "الحمد لله ذي الجلال وخالق الأنام ، ومقدر الأقسام المتفرد بالبقاء والدوام ، فالق الإصباح وخالق الأشباح ، وفاطر الأرواح أحمده أولا وآخرا ، وأستشهده باطنا وظاهرا ، وأستعين به إلها قادرا ، وأستنصره وليا ناصرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله شهادة من أقر بوحدانية إيمانا واعترف بربوبيته إيقانا وعلم برهان ما يدعو إليه ، وعرف حقيقة الدلالة عليه .
اللهم صل على وليك الأزهر ، وصديقك الأكبر علي بن أبي طالب أبي الأئمة الراشدين المهتدين ، اللهم صل على السبطين الطاهرين الحسن والحسين ، وعلى الأئمة الأبرار الصفوة الأخيار من أقام منهم وظهر ، ومن خاف منهم واستتر ، اللهم صل على الإمام المهدي بك ، والذي بلغ بأمرك وأظهر حجتك ونهض بالعدل في بلادك هاديا لعبادك ، اللهم صل على القائم بأمرك وعلى المنصور بنصرك اللذين بذلا نفوسهما في رضاك وجاهدا أعداءك ، اللهم صل على المعز لدينك ، المجاهد في سبيلك ، المظهر لآياتك الحقية والحجة الجلية . اللهم صل على العزيز بك الذي مهدت به البلاد وهديت به العباد ، اللهم اجعل توافي صلواتك وزواكي بركاتك على سيدنا ومولانا إمام الزمان وحصن الإيمان وصاحب الدعوة العلوية والملة النبوية عبدك ووليك المنصور أبي علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين ، كما صليت على آبائه الراشدين وأكرمت أولياءك المهتدين ، اللهم أعنه على ما وليته ، واحفظه فيما استرعيته ، وبارك له فيما آتيته وانصر جيوشه ، وأعل أعلامه في مشارق الأرض ومغاربها ، إنك على كل شيء قدير" .
وكان السبب في هذا أن رسل الحاكم ومكاتباته كانت تتردد إلى قرواش ترددا أوجبت استمالته ، فأقام له الدعوة بالموصل على ما ذكرناه وانحدر إلى الأنبار ، فتقدم إلى الخطيب بإقامتها فهرب الخطيب إلى الكوفة فأقامها بها يوم الجمعة ثاني ربيع الأول ، وأنفذ إلى القصر والمدائن فأقيمت بها في يوم الجمعة التاسع من هذا الشهر ، وكشف قرواش وجهه بالخلاف وأظهر المباينة وأدخل يده في المعاملات السلطانية وخبط الناس خبطة المخارقة ، وورد على الخليفة من هذا ما أزعجه فراسل عميد الجيوش وكاتب بهاء الدولة وأنفذ إليه أبا بكر محمد بن الطيب المتكلم رسولا ، وحمله قولا طويلا ، فقال : والله إن عندنا من هذا الأمر أكثر مما عند أمير المؤمنين ، لأن الفساد علينا به أكثر وقد كاتبنا أبا علي وتقدمنا بإطلاق مائة ألف دينار يستعين بها على نفقات العسكر ، وإن دعت الحاجة إلى مسيرنا كنا أول طالع على أمير المؤمنين .
ثم نفذ إلى قرواش في ذلك فاعتذر ووثق من نفسه في إزالة ذلك ووثق له في ترك المؤاخذة به ، ثم وقع الرضا عنه وأقيمت الخطبة للقادر بالله ، وكان الحاكم قد نفذ إلى قرواش ما قيمته ثلاثون ألف دينار فسار الرسول فتلقاه قطع الخطبة بالرقة فكتب إلى الحاكم يعرفه فكتب : "دع ما معك عند والي الرقة" .