وفي هذه السنة:
لقي السلطان طغرلبك الخليفة القائم بالله ، وكان السلطان يسأل في ذلك إلى أن تقرر كون هذا في ذي القعدة ، فجلس رئيس الرؤساء في صدر رواق صحن السلام ، وبين يديه الحجاب ، ثم استدعى نقيبي العباسيين والعلويين ، وقاضي القضاة ، والشهود ، فلما تضاحى النهار كتب إلى السلطان طغرلبك بما مضمونه الإذن عن أمير المؤمنين في الحضور ، فأنفذ ذلك مع ابني المأمون الهاشميين ، ومن خدم الخواص خادمين ، ومن الحجاب حاجبين ، ولما وقف السلطان على ذلك نزل في الطيار ، وكان قد زين ، وأنفذ إليه ، فانحدر ومعه [عدة] زبازب سميريات ، وعلى الظهر فيلان يسيران بإزاء الطيار ، فدخل الدار والأولاد والأمراء والملوك يمشون بين يديه ، ونحو خمسمائة غلام ترك ، فلما وصل إلى باب دهليز صحن السلام وقف طويلا على فرسه حتى فتح له ، ونزل فدخل إلى الصحن ، ومشى وخرج رئيس الرؤساء إلى وسطه فتلقاه ، فدخل على أمير المؤمنين وهو على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع ، عليه قميص وعمامة مصمتان ، وعلى منكبه بردة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيده القضيب ، فحين شاهد السلطان أمير المؤمنين قبل الأرض دفعات ، فلما دنا من مجلس الخليفة صعد رئيس الرؤساء إلى سرير لطيف دون ذلك السرير بنحو قامة ، وقال له أمير المؤمنين: أصعد ركن الدين إليك ، وليكن معه محمد بن منصور الكندري . فأصعدهما إليه ، وتقدم ، وطرح كرسي جلس عليه السلطان ، وقال [أمير المؤمنين] لرئيس الرؤساء:
قل له يا علي: أمير المؤمنين حامد لسعيك ، شاكر لفضلك ، آنس بقربك ، زائد الشغف بك ، وقد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده ، ورد إليك فيه مراعاة عباده ، فاتق الله فيما ولاك ، واعرف نعمته عليك ، وعبدك في ذلك ، واجتهد في عمارة البلاد ، ومصالح العباد ، ونشر العدل ، وكف الظلم .
ففسر له عميد الملك القول ، فقام وقبل الأرض ، وقال: أنا خادم أمير المؤمنين وعبده ، ومتصرف على أمره ونهيه ، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيه ، ومن الله تعالى استهداء المعونة والتوفيق .
واستأذن أمير المؤمنين في أن ينهض ويحمل إلى حيث تفاض الخلع عليه ، فنزل إلى بيت في جانب البهو ، ودخل معه عميد الملك ، فألبس الخلع وهي سبع خلع في زي واحد ، وترك التاج على رأسه ، وعاد فجلس بين يدي أمير المؤمنين ، ورام تقبيل الأرض فلم يتمكن لأجل التاج ، وأخرج أمير المؤمنين سيفا من بين يديه فقلده إياه ، وخاطبه بملك المشرق والمغرب ، واستدعى ألوية وكانت ثلاثة: اثنان خمرية بكتائب صفر ، وآخر بكتائب مذهبة سمي لواء الحمد ، فعقد منهم أمير المؤمنين لواء الحمد بيده ، وأحضر العهد فقال . يسلم إليه ، ويقال له: يقرأ عليك عهدنا إليك ، ويفسر لك لتعمل بموجبه ، وبمقتضى ما أمرنا به ، خار الله لنا ولك وللمسلمين فيما فعلنا وأبرمناه ، آمرك بما أمرك الله به ، وأنهاك عما نهاك الله عنه ، وهذا منصور بن أحمد نائبنا لديك ، وصاحبنا وخليفتنا عندك ، ووديعتنا ، فاحتفظ به وراعه ، فإنه الثقة السديد والأمين الرشيد ، وانهض على اسم الله تعالى مصاحبا محروسا .
وكان من السلطان طغرلبك في كل فصل يفصل له من الشكر وتقبيل الأرض ما أبان عن حسن طاعته ، وصادق محبته ، وسأل مصافحته باليد الشريفة فأعطاه أمير المؤمنين يده دفعتين قبل لبسه الخلع وعند انصرافه من حضرته ، وهو يقبلها ويضعها على عينيه ، ودخل جميع من في الدار من الأكابر والأصاغر إلى المكان فشاهدوا تلك الحال ، وخرج إلى صحن دار السلام ، فسار والخيل والألوية أمامه ، ولما خرجت الألوية رفعت من سطح صحن السلام وحطت على روشن بيت النوبة ، ومنه إلى الطيار؛ لئلا تخرج في الأبواب فتنكس ، ومضى إليه رئيس الرؤساء في يوم الاثنين ، وهنأه عن الخليفة ، وقال له: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تجلس للهناء بما أفاضه عليك من نعمة ، وولاك من خدمته ، وحمل إليه خلعة ، فقام وقبل الأرض وقال: قد أهلني أمير المؤمنين لرتبة يستنفد شكري ويستعبدني بما بقي من عمري ، وأتاه بسدة مذهبة ، وقال له: أمير المؤمنين يأمرك أن تلبس هذا التشريف ، وتجلس في هذا الدست ، وتأذن للناس ليشهدوا ما تواتر من إنعامه ، فيبتهج الولي ، وينقمع العدو .
وحمل السلطان في مقابلة ذلك خمسين غلاما أتراكا على خيول بسيوف ومناطق ، وعشرين رأسا من الخيل ، وخمسين ألف دينار ، وخمسين قطعة ثياب .