ذكر عدة حوادث .
في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، ( في ربيع الأول ) ، وصل أمير الجيوش في عساكر مصر إلى الشام ، فحصر دمشق ، وبها صاحبها تاج الدولة تتش ، فضيق عليه ، وقاتله ، فلم يظفر منها بشيء ، فرحل عنها عائدا إلى مصر .
وفيها كانت الفتنة بين أهل الكرخ وسائر المحال من بغداذ ، وأحرقوا من نهر الدجاج درب الآجر وما قاربه ، وأرسل الوزير أبو شجاع جماعة من الجند ، ونهاهم عن سفك الدماء تحرجا من الإثم ، فلم يمكنهم تلافي الخطب فعظم .
وفيها كانت زلزلة شديدة بخوزستان وفارس ، وكان أشدها بأرجان ، فسقطت الدور ، وهلك تحتها خلق كثير .
وفيها ، في ربيع الأول ، هاجت ريح عظيمة سوداء بعد العشاء ، وكثر الرعد والبرق ، وسقط على الأرض رمل أحمر وتراب كثير ، وكانت النيران تضطرم في أطراف السماء ، وكان أكثرها بالعراق وبلاد الموصل ، فألقت النخيل والأشجار وسقط معها صواعق في كثير من البلاد ، حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت ثم انجلى ذلك نصف الليل . وفيها ولد للخليفة ولده أبو عبد الله الحسين وزينت بغداد وضربت الطبول والبوقات وكثرت الصدقات وفيه: بدأ الطاعون ببغداد ونواحيها ، وكان عامة أمراضهم الصفراء ، بينا الرجل في شغله أخذته رعدة فخر لوجهه ، ثم عرض لهم شناج وبرسام وصداع ، وكان الأطباء يصفون مع هذه الأمراض أكل اللحم لحفظ القوة ، فإنهم ما كانت تزيدهم الحمية إلا قوة مرض ، وكانوا يسمونها: مخوية ، وتقول الأطباء: ما رأينا مثل هذه الأمراض لا تلائمها المبردات ولا المسخنات ، واستمر ذلك إلى آخر رمضان فمات منه نحو عشرين ألفا ببغداد ، وكان المرض يكون خمسة أيام وستة ثم يأتي الموت ، وكان الناس يوصون في حال صحتهم ، وكان الميت يلبث يوما ويومين لعدم غاسل وحامل وحافر ، وكان الحفارون يحفرون عامة ليلتهم بالروحانية ليفي ذلك بمن يقبر نهارا ، ووهب المقتدي للناس ضيعة تسمى الأجمة فامتلأت بالقبور ، وفرغت قرى من أهلها منها المحول .
وحكى بعض الأتراك أنه مر بالمحول ، فرأى كثرة الموتى ، ورأى طفلة على باب بيت تنادي: هل من مسلم يؤجر في فيأخذني ، فإن أبي وأمي وأخوتي هلكوا في هذا البيت . قال: فنزلت فإذا بها في صدر أمها ميتة .
وحكى عبيد الله بن طلحة الدامغاني أن دربا من دروب التوثة مات جميع أهله فسد باب الدرب ، وهلك عامة أهل باب البصرة ، وأهل حربي ،
وعم هذا الطاعون خراسان ، والشام ، والحجاز ، وتعقبه موت الفجأة ، ثم أخذ الناس الجدري في أطفالهم ، ثم تعقبه موت الوحوش في البرية ، ثم تلاه موت الدواب والمواشي ، ثم قحط الناس ، وعزت الألبان واللحوم ، ثم أصاب الناس بعد ذلك الخوانيق ، والأورام ، والطحال ،
وأمد المقتدي بأمر الله الفقراء بالأدوية والمال ، ففرق ما لا يحصى ، وتقدم إلى أطباء المارستان بمراعاة جميع المرضى . وفي ثاني عشر شعبان منها قلد أبو بكر محمد بن مظفر الشامي قضاء القضاة ببغداد ، بعد وفاة أبي عبد الله الدامغاني وخلع عليه في الديوان ، وحج بالناس الأمير ختلغ التركي ، وزار النبي صلى الله عليه وسلم ذاهبا وآيبا قال أظن أنها آخر حججي فكان كذلك
وفيها خرج توقيع الخليفة المقتدي بأمر الله بتجديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل محلة والأمر بإلزام أهل الذمة بالغيار وكسر الملاهي وإراقة الخمور وإخراج أهل الفساد . وفيه قد رفع إلى مجلس العرض الأشرف حال بني اليهود وتظاهرهم بما حظر على أهل الذمة المظاهرة به ، فمتى تعدوا شرطا مما أخذ منهم نقضوا العهد ، وبرئت منهم الذمة . قال الله تعالى:
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم . وفي رمضان: تكلم بهراة متكلم فلسفي فأنكر عليه عبد الله الأنصاري ، فتعصب لذلك قوم فافتتنت هراة ، وخرج ذلك المتكلم إلى فوسنج بعد أن أثخن ضربا ، وأحرقت داره ، فلجأ إلى دار القاضي أبي سعد بن أبي يوسف مدرس فوسنج ، فأتبعه قوم من أصحاب الأنصاري إلى فوسنج وهجموا عليه ، ونالوا منه ومن أبي سعد ، فافتتنت فوسنج ، وسود باب مدرسة النظام ، وكانت فيها جراحات فبعث النظام فقبض على الأنصاري ، فأبعده عن هراة حتى خبت الفتنة ، ثم أعاده إلى هراة .
وفي ذي القعدة:
جاء سيل لم يشاهد مثله منذ سنين ، فغرق عامة المنازل ببغداد ، ودام يوما وليلة ، وبقي أثر ذلك السحاب في البرية إلى الصيف .
وفي هذا الشهر:
قبض بدر الجمالي أمير مصر على ولده الأكبر وأربعة من الأمراء ، كان الولد قد واطأهم على قتل أبيه لينفرد بالملك ، فوشى بذلك خازن أحد الأمراء ، فأخذ الأربعة ، وضرب رقابهم وصلبهم ، وعفى أثر ولده ، فقال قوم: قطع عنه القوت فمات ، وقال قوم: غرقه ، وقال قوم: دفنه حيا ، وكان بدر هذا قد نفى عن مصر والقاهرة كل من وقعت عليه سيماء العلم بعد أن قتل خلقا كثيرا من العلماء ، وقال:
العلماء أعداء هذه الدولة هم الذين ينبهون العوام على ما يقولونه ، ونفى مذكري أهل السنة ، وحمل الناس أن يكبروا خمسا على الجنائز ، وأن يسدلوا أيمانهم في الصلاة ، وأن يتختموا في الأيمان ، وأن يثوبوا في صلاة الفجر "حي على خير العمل" وحبس أقواما رووا فضائل الصحابة .
وزاد نيل مصر في هذه السنة زيادة لم يعهدوها منذ سنين وكثر الخصب . ومما حدث في هذه السنة: أن رجلا من الهاشميين يقال له: ابن الحب كانت له بنت فهويها جار لهم وهويته فافتضها ، فدخل أبوها فرآها على تلك الحال فغشي عليه ، ثم أفاق بعد زمان وجرد سيفا وعدا ليقتلها ، فهربت إلى جيرانها ، ثم ظفر بها فسألها عن الحال فاعترفت ، فمضى إلى الديوان في جماعة من الهاشميين يستنفر على الرجل ، فلم تثبت له بينة ولا أقر الرجل ، فحبس الشريف ابنته في بيت ، وسد عليها الباب ، وكان لها أخ يرمي إليها من روزنة البيت يسيرا من القوت فعلم أبوها فأخرجه من الدار ، فبقيت أياما ليس لها قوت فماتت .
ومما حدث: أن قوما وقعوا على حاج مصر فقتلوا خلقا كثيرا منهم ، وأخذوا أموالهم ، وعاد من سلم غير حاج .