نهب العرب البصرة وفي سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ، في جمادى الأولى نهب العرب البصرة نهبا قبيحا .
وسبب ذلك أنه ورد إلى بغداذ ، في بعض السنين ، رجل أشقر من سواد النيل يدعي الأدب ، والنجوم ، ويستجري الناس ، فلقبه أهل بغداذ تليا ، وكان نازلا في بعض الخانات ، فسرق ثيابا من الديباج وغيره ، وأخفاها ( في خلفا ) ، وسار بها ، فرآها الذين يحفظون الطريق ، فمنعوه من السفر ( اتهاما له ) ، وحملوه إلى المقدم عليهم ، فأطلقه لحرمة العلم .
فسار إلى أمير من أمراء العرب من بني عامر ، وبلاده متاخمة الأحساء ، وقال له : أنت تملك الأرض ، وقد فعل أجدادك بالحاج كذا وكذا ، وأفعالهم مشهورة ، مذكورة في التواريخ ، وحسن له نهب البصرة ، وأخذها ، فجمع من العرب ما يزيد على عشرة آلاف مقاتل ، وقصد البصرة ، وبها العميد عصمة ، وليس معه من الجند إلا اليسير ، لكون الدنيا آمنة من ذاعر ، ولأن الناس في جنة من هيبة السلطان ، فخرج إليهم في أصحابه ، وحاربهم ، ولم يمكنهم من دخول البلد ، فأتاه من أخبره أن أهل البلد يريدون أن يسلموه إلى العرب ، فخاف ، ففارقهم ، وقصد الجزيرة التي هي مكان القلعة بنهر معقل .
فلما علم أهل البلد بذلك فارقوا ديارهم وانصرفوا ، ودخل العرب حينئذ البصرة ، وقد قويت نفوسهم ، وملكوها ، ونهبوا ما فيها نهبا شنيعا ، فكانوا ينهبون نهارا ، وأصحاب العميد عصمة ينهبون ليلا ، وأحرقوا مواضع عدة ، وفي جملة ما أحرقوا داران للكتب إحداهما وقفت قبل أيام عضد الدولة ابن بويه ، فقال عضد الدولة : هذه مكرمة سبقنا إليها ، وهي أول دار وقفت في الإسلام . والأخرى وقفها الوزير أبو منصور بن شاه مردان ، وكان بها نفائس الكتب وأعيانها ، وأحرقوا أيضا النحاسين وغيرها من الأماكن .
وخربت وقوف البصرة التي لم يكن لها نظير ، من جملتها : وقوف على الحمال الدائرة على شاطئ دجلة ، وعلى الدواليب التي تحمل الماء وترقيه إلى قنى الرصاص الجارية إلى المصانع ، وهي على فراسخ من البلد ، وهي من عمل محمد بن سليمان الهاشمي وغيره .
وكان فعل العرب بالبصرة أول خرق جرى في أيام السلطان ملكشاه . فلما فعلوا ذلك ، وبلغ الخبر إلى بغداذ انحدر سعد الدولة كوهرائين ، وسيف الدولة صدقة بن مزيد إلى البصرة لإصلاح أمورها ، فوجدوا العرب قد فارقوها .
ثم إن تليا أخذ بالبحرين ، وأرسلوا إلى السلطان ، فشهره ببغداذ سنة أربع وثمانين [ وأربعمائة ] على جمل ، وعلى رأسه طرطور ، وهو يصفع بالدرة ، والناس يشتمونه ، ويسبهم ، ثم أمر به فصلب . وحكى طالوت بن عباد: أنه رأى محمد بن سليمان أمير البصرة في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ولولا حوض المربد لهلكت .
وكان محمد قد ابتدأ بهذا المصنع عند خروجه إلى مكة ، وعاد إلى البصرة ، فاستقبل بمائه فشربه وصلى على جانبه ركعتين شكرا لله تعالى على تمام هذه المصلحة ، فأصبح طالوت ، فعمل مصنعا وقف عليه وقوفا .