ذكر
وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود
في سنة إحدى عشرة وخمسمائة ، في الرابع والعشرين من ذي الحجة ، توفي السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان ، وكان ابتداء مرضه في شعبان ، وانقطع عن الركوب ، وتزايد مرضه ، ودام ، وأرجف عليه بالموت ، فلما كان يوم عيد النحر حضر السلطان ، وحضر ولده السلطان محمود على السماط ، فنبهه الناس ، ثم أذن لهم فدخلوا إلى السلطان محمد ، وقد تكلف القعود لهم ، بين يديه سماط كبير فأكلوا وخرجوا .
فلما انتصف ذو الحجة أيس من نفسه ، فأحضر ولده محمودا ، وقبله ، وبكى كل واحد منهما ، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة ، وينظر في أمور الناس ، وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة ، فقال لوالده : إنه يوم غير مبارك ، يعني من طريق النجوم ، فقال : صدقت ، ولكن على أبيك ، وأما عليك فمبارك بالسلطنة . فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين .
وفي يوم الخميس الرابع والعشرين أحضر الأمراء وأعلموا بوفاته ، وقرئت وصيته إلى ولده محمود يأمر بالعدل والإحسان ، وفي الجمعة الخامس والعشرين منه خطب لمحمود بالسلطنة .
ترجمة السلطان محمد وكان مولد السلطان محمد ثامن عشر شعبان من سنة أربع وسبعين وأربعمائة ، وكان عمره سبعا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وستة أيام ، وأول ما دعي له بالسلطنة ببغداذ ، في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ، وقطعت خطبته عدة دفعات ، ولقي من المشاق والأخطار ما لا حد له ، فلما توفي أخوه بركيارق صفت له السلطنة ، وعظمت هيبته ، وكثرت جيوشه وأمواله وكان اجتمع الناس عليه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر .
بعض سيرته
كان عادلا ، حسن السيرة ، شجاعا ، فمن عدله أنه اشترى مماليك من بعض التجار ، وأحالهم بالثمن على عامل خوزستان ، فأعطاهم البعض ، ومطل بالباقي ، فحضروا مجلس الحكم ، وأخذوا معهم غلمان القاضي ، فلما رآهم السلطان قال لحاجبه : انظر ما حال هؤلاء ، فسألهم عن حالهم ، فقالوا : لنا خصم يحضر معنا مجلس الحكم ، فقال : من هو ؟ قالوا : السلطان ، وذكروا قصتهم ، فأعلمه ذلك ، فاشتد عليه وأكره ، وأمر بإحضار العامل ، وأمره بإيصال أموالهم ، والجعل الثقيل ، ونكل به حتى يمتنع غيره عن مثل فعله ، ثم إنه كان يقول بعد ذلك : لقد ندمت عظيما حيث لم أحضر معهم مجلس الحكم ، فيقتدي بي غيري ، ولا يمتنع أحد عن الحضور فيه وأداء الحق .
فمن عدله : أنه له خازن يعرف بأبي القزويني قتله الباطنية ، فلما قتل أمر بعرض الخزانة ، فعرض عليه فيها درج فيه جوهر كثير نفيس ، فقال : إن هذا الجوهر عرضه علي ، منذ أيام ، وهو في ملك أصحابه ، وسلمه إلى خادم ليحفظه وينظر من أصحابه فيسلم إليهم ، وكانوا تجارا غرباء ، وقد تيقنوا ذهابه وأيسوا منه فسكتوا فأحضرهم وسلمه إليهم .
ومن عدله : أنه أطلق المكوس والضرائب في جميع البلاد ، ولم يعرف منه فعل قبيح ، وعلم الأمراء سيرته ، فلم يقدم أحد منهم على الظلم ، وكفوا عنه .
ومن محاسن أعماله ما فعله مع الباطنية .
حال الباطنية أيام السلطان محمد
قد تقدم ذكر ما اعتمده من حصر قلاعهم ، ونحن نذكر هاهنا زيادة اهتمامه بأمرهم ، فإنه ، رحمه الله تعالى ، لما علم أن مصالح البلاد والعباد منوطة بمحو آثارهم ، وإخراب ديارهم ، وملك حصونهم وقلاعهم ، جعل قصدهم دأبه .
وكان ، في أيامه ، المقدم عليهم ، والقيم بأمرهم الحسن بن الصباح الرازي ، صاحب قلعة ألموت ، وكانت أيامه قد طالت ، وله منذ ملك قلعة ألموت ما يقارب ستا وعشرين سنة ، وكان المجاورون له في أقبح صورة من كثرة غزاته عليهم وقتله وأسر رجالهم ، وسبي نسائهم ، فسير إليه السلطان العساكر ، على ما ذكرناه ، فعادت من غير بلوغ غرض . فلما أعضل داؤه ندب لقتاله الأمير أنوشتكين شيركير ، صاحب آبة ، وساوة ، وغيرهما ، فملك منهم عدة قلاع منها قلعة كلام ، ملكها في جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة ، وكان مقدمها يعرف بعلي بن موسى ، فأمنه ومن معه ، وسيرهم إلى ألموت ، وملك منهم أيضا قلعة بيرة ، وهي على سبعة فراسخ من قزوين ، وأمنهم ، وسيرهم إلى ألموت أيضا .
وسار إلى قلعة ألموت فيمن معه من العساكر ، وأمده السلطان بعدة من الأمراء ، فحصرهم ، وكان هو ، من بينهم ، صاحب القريحة والبصيرة في قتالهم ، مع جودة رأي وشجاعة ، فبنى عليها مساكن يسكنها هو ومن معه ، وعين لكل طائفة من الأمراء أشهرا يقيمونها ، فكانوا ينيبون ، ويحضرون ، وهو ملازم الحصار ، وكان السلطان ينقل إليه الميرة ، والذخائر ، والرجال ، فضاق الأمر على الباطنية ، وعدمت عندهم الأقوات وغيرها ، فلما اشتد عليهم الأمر نزلوا نساءهم وأبناءهم مستأمنين ، وسألوا أن يفرج لهم ولرجالهم عن الطريق ، ويؤمنوا ، فلم يجابوا إلى ذلك ، وأعادهم إلى القلعة ، قصدا ليموت الجميع جوعا .
وكان ابن الصباح يجري لكل رجل منهم ، في اليوم ، رغيفا ، وثلاث جوزات ، فلما بلغ بهم الأمر إلى الحد الذي لا مزيد عليه ، بلغهم موت السلطان محمد ، فقويت نفوسهم ، وطابت قلوبهم ، ووصل الخبر إلى العسكر المحاصر لهم بعدهم بيوم ، وعزموا على الرحيل ، فقال شيركير : إن رحلنا عنهم وشاع الأمر ، نزلوا إلينا ، وأخذوا ما أعددنا من الأقوات والذخائر ، والرأي أن نقيم على قلعتهم حتى نفتحها ، وإن لم يكن المقام ، فلا بد من مقام ثلاثة أيام ، ينفذ منا ثقلنا وما أعددناه ونحرق ما نعجز عن حمله لئلا يأخذه العدو .
فلما سمعوا قوله علموا صدقه ، فتعاهدوا على الاتفاق والاجتماع ، فلما أمسوا رحلوا من غير مشاورة ، ولم يبق غير شيركير ، ونزل إليه الباطنية من القلعة ، فدافعهم وقاتلهم وحمى من تخلف من سوقة العسكر وأتباعه ، ولحق بالعسكر ، فلما فارق القلعة غنم الباطنية ما تخلف عندهم .