ذكر
من توفي في هذه السنة من الأكابر أبو غالب النوبندجاني الصوفي
إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن يوسف ، أبو غالب النوبندجاني الصوفي: ونوبندجان من نواحي فارس ، سمع من ابن المهتدي ، وابن النقور وغيرهما ، وحدث ، وكان صالحا دينا .
وتوفي يوم الأحد خامس رجب ، ودفن بمقابر الشهداء . أحمد بن محمد بن شاكر
أحمد بن محمد بن شاكر ، أبو سعد صاحب ابن القزويني .
سمع منه ومن العشاري ، والجوهري ، وكان صالحا .
وتوفي يوم الثلاثاء خامس عشر صفر ، ودفن بباب حرب . أحمد بن الحسن بن طاهر بن الفتح
أحمد بن الحسن بن طاهر بن الفتح ، أبو المعالي:
ولد سنة خمس وأربعين وأربعمائة ، وسمع أبا الطيب الطبري ، وأبا يعلى ، وابن المهتدي ، وابن المسلمة وغيرهم . وكان سماعه صحيحا .
وتوفي يوم الأحد خامس رجب ، ودفن بمقابر الشهداء . أبو الحسن بن أبي عبد الله الدامغاني
علي بن محمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الملك بن حمويه الدامغاني ، أبو الحسن بن أبي عبد الله قاضي القضاة ابن قاضي القضاة:
ولد في رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة ، وشهد عند أبيه أبي عبد الله في سنة ست وستين ، وفوض إليه القضاء بباب الطاق ، وما كان إلى جده أبي أمه القاضي أبي الحسن بن أبي جعفر السمناني من القضاء ، وكان يوم تقلد القضاء وعدل ابن ست عشرة سنة ، ولم يسمع أن قاضيا تولى أصغر من هذا ، وولي القضاء لأربعة خلفاء: القائم والمقتدي إلى أن مات أبوه ، ثم ولي الشافعي فعزل نفسه ، وبعث إليه الشامي يقول له:
أنت على عدالتك وقضائك ، فنفذ إليه يقول: أما الشهادة فإنها استشهدت ، وأما القضاء فقضي عليه ، وانقطع عن الولاية ، واشتغل بالعلم ، فقلده المستظهر قضاء القضاة في سنة ثمان وثمانين وكان عليه اسم قاضي القضاة وهو معزول في المعنى بالسيبي والهروي ، ولم يكن إليه إلا سماع البينة في الجانب الغربي ، لكنه كان يتطرى جاهه بالأعاجم ومخاطبتهم في معناه ، ثم ولي المسترشد فأقره على قضاء القضاة ولا يعرف بأن قاضيا تولى لأربعة خلفاء غيره ، وغير شريح إلا أبا طاهر محمد بن أحمد بن الكرخي ، قد رأيناه ولي القضاء لخمسة خلفاء ، وإن كان مستنابا: المستظهر ، والمسترشد ، والراشد ، والمقتفي ، والمستنجد . [وناب] أبو الحسن الدامغاني عن الوزارة في الأيام المستظهرية والمسترشدية بمشاركة غيره معه ، وتفرد بأخذ البيعة وللمسترشد ، وكان فقيها متدينا ذا مروءة وصدقات وعفاف ، وكان له بصر جيد بالشروط والسجلات ، وسمع الحديث من القاضي أبي يعلى بن الفراء ، وأبي بكر الخطيب ، والصريفيني وابن النقور ، وحدث .
وكان قد تقدم إليه المستظهر بسماع قول بعض الناس فلم يره أهلا لذلك ، فلم يسمع قوله وحدثني أبو البركات بن الجلاء الأمين ، قال: حضر أبو الحسن الدامغاني وجماعة أهل الموكب باب الحجرة ، فخرج الخادم فقال: انصرفوا إلا قاضي القضاة ، فلما انصرفوا قال له الخادم: إن أمير المؤمنين يحب يسمع كلامك ، يقول لك:
أنحن نحكمك أم أنت تحكمنا؟ قال: فقال: كيف يقال لي هذا وأنا بحكم أمير المؤمنين؟ فقال: أليس يتقدم إليك بقبول قول شخص فلا تفعل؟ قال: فبكى ثم قال [لأمير المؤمنين ] : يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة جيء بديوان ديوان فسئلت عنه ، فإذا جيء بديوان القضاء كفاك أن تقول وليته لذاك المدبر ابن الدامغاني فتسلم أنت وأقع أنا ، قال: فبكى الخليفة ، وقال: افعل ما تريد .
وقد روى رفيقنا أبو سعد السمعاني ، قال: سمعت أبا الحسن علي بن أحمد الأزدي يقول: دخل أبو بكر الشاشي على قاضي القضاة الدامغاني زائرا له فما قام قاضي القضاة ، فرجع الشاشي وما قعد ، وكان ذلك في سنة نيف وثمانين ، فما اجتمعا إلا بعد سنة خمسمائة في عزاء لابن الفقيه ، فسبق الشاشي فجلس ، فلما دخل الدامغاني قام الكل إلا الشاشي فإنه ما تزحزح ، فكتب قاضي القضاة إلى المستظهر يشكو من الشاشي أنه ما احترم حرمة نائب الشرع ، فكتب المستظهر: ماذا أقول له ، أكبر منك سنا وأفضل منك وأورع منك ، لو قمت له كان يقوم لك ، وكتب الشاشي إلى المستظهر ، يقول: فعل في حقي وصنع ووضع مرتبة العلم والشيوخة ، وكتب في أثناء القصة:
حجاب وإعجاب وفرط تصلف ومد يد نحو العلا بتكلف فلو كان هذا من وراء كفاية
لهان ولكن من وراء تخلف
فكتب المستظهر في قصته: يمشي الشاشي إلى الدامغاني ويعتذر ، فمضى امتثالا للمراسم ، وكنا معه ، فقام له الدامغاني قياما تاما ، وعانقه واعتذر إليه ، وجلسا طويلا يتحدثان ، وكان القاضي يقول: تكلم والدي في المسألة الفلانية واعترض عليه فلان ، وتكلم فلان في مسألة كذا وكذا واعترض عليه والدي إلى أن ذكر عدة مسائل ، فقال له الشاشي: ما أجود ما قد حفظت أسماء المسائل .
قال المصنف رحمه الله: وكان أبو الحسن ابن الدامغاني قصر أيضا في حق أبي الوفاء ابن عقيل ، فكتب ابن عقيل إليه ما قرأته بخطه: "مكاتبة سنح بها الخاطر لتوصل إلى أبي الحسن الدامغاني قاضي القضاة يتضمن تنبيها له على خلال قد سولت له نفسه استعمالها ، فهدت من مجد منصبه ما لا يتلافاه على طول الوقت في مستقبل عمره ، لما خمره في نفوس العقلاء من ضعف رأيه وسوء خلقه الذي لم يوفق لعلاجه ، وكان مستعملا نعمة الله تعالى في مداواة نقائصه . ومن عذيري ممن نشأ في ظل والد مشفق عليه قد حلب الدهر شطريه وأتلف في طلب العلم أطيبيه ، أجمع أهل عصره على كمال عقله كما اجتمع العلماء على غزارة علمه ، اتفق تقدمه في نصبه القضاء بالدولة التركمانية والتركية المعظمة لمذهبه ، وفي عصره من هو أفضل منه بفنون من الفضل ، كأبي الطيب الطبري ، وأخلق بالرياسة كالماوردي ، وأبي إسحاق الفيروزآبادي ، وابن الصباغ ، فقدمه الزمان على أمثاله ، ومن يربي عليه في الفضل والأصل فكان أشكر الناس لنعمة الله ، فاصطنع من دونه من العلماء ، وأكرم من فوقه من الفقهاء حتى أراه الله في نفسه فوق ما تمناه من ربه ، وغشاه من السعادة ما لم يخطر بباله ، حيث رأى أبا الطيب الطبري نظير أستاذه الصيمري بين يديه شاهدا ، وله في مواكب الديوان مانعا ، وتعجرف عليه أبو محمد التميمي فكان يتلافاه بجهده ، ويأبى إلا إكرامه ويغشاه في تهنئة أو تعزية ، حتى عرض عليه القائم الوزارة فأبى تعديه رتبة القضاء ، فلما ولي ولده سلك طريقة عجيبة خرج بها عن سمت أبيه ، فقدم أولاد السوقة ، وحرم أولاد العلماء حقوقهم ، وقبل شهادة أرباب المهن ، وانتصب قائما للفساق الذين شهد بفسقهم لباسهم الحرير والذهب ، ومنع أن يحكم إلا برأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ، وصاح في مجلسه بأعلى صوته أنه لم يبق في الأرض مجتهد ، وهو لا يعلم ما تحت هذا الكلام من الفساد ، وهو إخراج عن الإجماع الذي هو آكد أدلة الشرع ، وليس لنا دليل معصوم سواه ، جعله الله في هذه الشريعة خلف النبوة حيث كان نبيها خاتم الأنبياء لا يخلفه نبي ، فجعل اجتماع أمته بدلا من نبوة بعد نبوة ، وقد علم أن المقدم عليه نقيب النقباء تقدم مميز ، وترك النظر صفحا ، وتعاطى أن لا يخاطب أحدا بما يقتضيه حاله من شيوخه أو علم أو نسب الآباء فعاد ممقوتا إلى القلوب ، وأهمله من لا حاجة إليه له ، أصلحه الله لنفسه فما أغنانا عنه" .
وكتب ابن عقيل يوبخه أيضا على تقصير في حقه "من عذيري ممن خص بولاية الأحكام وقضاء القضاة والحكم في جميع بلاد الإسلام ، فكان أحق الناس بالإنصاف ، والإنصاف لا يختص بأحكام الشرع بل حقوق الناس التي توجبها قوانين السياسة وآداب الرئاسة مما يقتضي إعطاء كل ذي حق حقه ، ويجب أن يكون هو المعيار لمقادير الناس لا سيما أهل العلم الذي هو صاحب منصبهم ، ونراه على استمرار عادته يعظم الأعاجم الواردين من الخراسانية تعظيما باللفظ وبالنهوض لهم ، وينفخ فيهم بالمدح حال حضورهم ثقة بالسماع ، والحكاية عنهم ، وبطل الثناء بعد خروجهم فيحشمهم ذلك في نفوس من لا يعرفهم ، ويتقاعد عند علماء بلده ومشيخة دار السلام الذين قد انكشفت له علومهم على طول الزمان ، ويقصر بأولاد الموتى منهم مع معرفته بمقادير أسلافهم والناس يتلمحون أفعاله ، وأكثر من يخصهم بالتعظيم لا يتعدون هذه المسائل الطبوليات ، ليس عندهم من الروايات والفروعيات خبر ، مفلوسون من أصول الفقه والدين ، لا يعتمدون إلا على الألقاب الفارغة ، وإذا لم يسلك إعطاء كل ذي حق حقه لم يطعن ذلك في المحروم بل في الحارم ، أما من جهة قصور العلم بالموازنة ، أو من طريق اعتماد الحرمان لأرباب الحقوق ، وذاك البخس البحت ، والظلم الصرف ، وذلك يعرض بأسباب التهمة في التعديل فيما سوى هذا القبيل ، ولا وجه لقول متمكن من منصبه: لا أبالي ، فقد بالى من هو أكبر منصبا ، فقال عليه السلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650123 "لولا أن يقال أن محمدا نقض الكعبة لأعدتها إلى قواعد إبراهيم" فتوقى أن يقول الذين قتلهم وكسر أصنامهم ، وهذا عمر يقول: "لولا أن يقال أن عمر زاد في كتاب الله لكتبت آية الرجم في حاشية المصحف" . ومن فقهه قال: في حاشية المصحف ، لأن وضع الآي كأصل الآي ، لا يجوز لأحد أن يضع آية في سورة من غير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي ضعوها على رأس كذا ، فأنبأ بقوله في حاشية المصحف على هذا الفقه الدقيق .
فإن قال: لا أبالي بمن قال من علماء العراق كان العتب متضاعفا ، فيقال: قد أظهر من أعظامك الغرباء زيادة على محلهم ومقدارهم طلبا لانتشار اسمك بالمدحة ، وعلماء العراق هم بالقدح أقوم ، كما أنهم بأسباب المدح أعلم ، فاطلب السلامة تسلم ، والسلام" .
توفي أبو الحسن الدامغاني ليلة الأحد رابع عشر محرم عن ثلاث وستين سنة وستة أشهر ، ولي منها قضاء القضاة عشرين سنة وخمسة أشهر وأياما ، وصلي عليه وراء مقبرة الشونيزية ، تقدم في الصلاة عليه ابنه أبو عبد الله محمد ، وحضر النقيبان والأكابر ، ودفن في داره بنهر القلائين في الموضع الذي دفن فيه أبوه ، ثم نقل أبوه إلى مشهد أبي حنيفة . علي بن عقيل بن محمد بن عقيل
علي بن عقيل بن محمد بن عقيل ، أبو الوفاء الفقيه فريد دهره وإمام عصره:
قال شيخنا أبو الفضل ابن ناصر ، : سألته عن مولده ، فقال: ولدت في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ، وكذا رأيته أنا بخطه ، وكان حسن الصورة ، ظاهر المحاسن ، حفظ القرآن ، وقرأ القراءات على أبي الفتح بن شيطا وغيره ، وكان يقول:
شيخي في القراءة ابن شيطا ، وفي الأدب والنحو أبو القاسم بن برهان ، وفي الزهد أبو بكر الدينوري ، وأبو منصور بن زيدان ، أحلى من رأيت وأعذبهم كلاما في الزهد ، وابن الشيرازي ، ومن النساء الحرانية ، وبنت الجنيد ، وبنت الغراد المنقطعة إلى قعر بيتها لم تصعد سطحا قط ، ولها كلام في الورع ، وسيد زهاد عصره ، وعين الوقت أبو الوفاء القزويني ومن مشايخي في آداب التصوف أبو منصور ابن صاحب الزيادة العطار شيخ زاهد مؤثر بما يفتح له فتخلق بأخلاق مقتدى الصوفية ، ومن مشايخي في الحديث التوزي ، وأبو بكر بن بشران ، والعشاري ، والجوهري ، وغيرهم . ومن مشايخي في الشعر والترسل ابن شبل ، وابن الفضل . وفي الفرائض أبو الفضل الهمذاني وفي الوعظ أبو طاهر بن العلاف صاحب ابن سمعون ، وفي الأصول أبو الوليد ، وأبو القاسم بن البيان ، وفي الفقه أبو يعلى ابن الفراء المملوء عقلا وزهدا وورعا ، قرأت عليه حين عبرت من باب الطاق لنهب الغز لها سنة أربع وأربعين ، ولم أخل بمجالسته وخلواته التي تتسع لحضوري والمشي معه ماشيا ، وفي ركابه إلى أن توفي ، وحظيت من قربه لما لم يحظ به أحد من أصحابه مع حداثة سني ، والشيخ أبو إسحاق [الشيرازي] إمام الدنيا وزاهدها ، وفارس المناظرة وواحدها ، وكان يعلمني المناظرة ، وانتفعت بمصنفاته ، وأبو نصر ابن الصباغ ، وأبو عبد الله الدامغاني ، حضرت مجلس درسه ونظره من سنة خمسين إلى أن توفي ، وقاضي القضاة الشامي انتفعت به غاية النفع ، وأبو الفضل الهمذاني ، وأكبرهم سنا وأكثرهم فضلا أبو الطيب الطبري حظيت برؤيته ومشيت في ركابه ، وكانت صحبتي له حين انقطاعه عن التدريس والمناظرة فحظيت بالجمال والبركة .
ومن مشايخي أبو محمد التميمي كان حسنة العالم وماشطة بغداد ، ومنهم أبو بكر الخطيب كان حافظ وقته ، وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء وكان ذلك يحرمني علما نافعا ، وأقبل علي أبو منصور بن يوسف فحظيت منه بأكثر من حظوة وقدمني في الفتاوى مع حضور من هو أسن مني ، وأجلسني البرامكة بجامع المنصور لما مات شيخي سنة ثمان وخمسين ، وقام بكل مؤنتي وتجملي فقمت من الحلقة أتتبع حلق العلماء لتلقط الفوائد ، فأما أهل بيتي فإن بيت أبي فكلهم أرباب أقلام وكتابة وشعر وآداب ، وكان جدي محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة ، وهو المنشئ لرسالة عزل الطائع وتولية القادر ، ووالدي أنظر الناس ، وأحسنهم جدلا وعلما ، وبيت أمي بيت الزهري صاحب الكلام والمدرس على مذهب أبي حنيفة ، وعانيت من الفقر والنسخ بالأجرة مع عفة وتقى ، ولا أزاحم فقيها في حلقة ، ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة ، وتقلبت على الدول فما أخذتني دولة السلطان ولا عاقة عما أعتقد أنه الحق ، فأوذيت من أصحابي حتى طل الدم ، وأوذيت من دولة النظام بالطلب والحبس ، فيا من خسرت الكل لأجله لا تخيب ظني فيك ، وعصمني الله من عنفوان الشبيبة بأنواع من العصمة ، وقصر محبتي على العلم وأهله ، فما خالطت ملعابا ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم .
وأفتى ابن عقيل ودرس ، وناظر الفحول ، واستفتى في الديوان في زمن القائم في زمرة الكبار ، وجمع علوم الأصول والفروع ، وصنف فيها الكتب الكبار ، وكان دائم الاشتغال بالعلم حتى إني رأيت بخطه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة ، وبصري عن مطالعة ، أعمل فكري في حال راحتي وأنا مستطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره ، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين .
وكان له الخاطر العاطر والبحث عن الغوامض والدقائق ، وجعل كتابه المسمى "بالفنون" مناظرا لخواطره وواقعاته ، ومن تأمل واقعاته فيه عرف غور الرجل ، وتكلم على المنبر بلسان الوعظ مدة ، فلما كانت سنة خمس وسبعين وأربعمائة جرت فيها فتن بين الحنابلة والأشاعرة فترك الوعظ واقتصر على التدريس ، ومتعه الله بسمعه وبصره وجميع جوارحه .
قال ابن الجوزي: وقرأت بخطه ، قال: "بلغت لاثنتي عشرة سنة وأنا في سنة الثمانين وما أرى نقصا في الخاطر والفكر والحفظ وحدة النظر وقوة البصر لرؤية الأهلة الخفية إلا أن القوة بالإضافة إلى قوة الشبيبة والكهولة ضعيفة" .
وكان ابن عقيل قوي الدين ، حافظا للحدود ، ومات ولدان له فظهر منه من الصبر ما يتعجب منه ، وكان كريما ينفق ما يجد فلم يخلف سوى كتبه وثياب بدنه فكانت بمقدار كفنه وقضاء دينه ، وكان إذ طال عمره يفقد القرناء والإخوان . قال ابن الجوزي رحمه الله: فقرأت بخطه: رأينا في أوائل أعمارنا أناسا طاب العيش معهم كالدينوري ، والقزويني وذكر من قد سبق اسمه في حياته ، ورأيت كبار الفقهاء كأبي الطيب وابن الصباغ وأبي إسحاق ، ورأيت إسماعيل والد المزكي تصدق بسبعة وعشرين ألف دينار ، ورأيت من بياض التجار كابن يوسف وابن جرده وغيرهما ، والنظام الذي سيرته بهرت العقول ، وقد دخلت في عشر التسعين وفقدت من رأيت من السادات ولم يبق إلا أقوام كأنهم المسوخ صورا ، فحمدت ربي إذ لم يخرجني من الدار الجامعة لأنوار المسار بل أخرجني ولم يبق مرغوب فيه فكفاني محنة التأسف على ما يفوت ، لأن التخلف مع غير الأمثال عذاب ، وإنما هون فقداني للسادات نظري إلى الإعادة بعين اليقين ، وثقتي إلى وعد المبدئ لهم ، فلكأني أسمع داعي البعث وقد دعا كما سمعت ناعيهم وقد نعى حاشي المبدئ لهم على تلك الأشكال والعلوم أن يقنع لهم في الوجود بتلك الأيام اليسيرة المشوبة بأنواع الغصص وهو المالك ، لا والله لا أقنع لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة [تليق] بكرمه ، ونعيم بلا ثبور ، وبقاء بلا موت ، واجتماع بلا فرقة ، ولذات بغير نغصة .
وحدثني بعض الأشياخ أنه لما احتضر ابن عقيل بكى النساء ، فقال: قد وقفت خمسين سنة فدعوني أتهنأ بلقائه .
توفي رضي الله عنه بكرة الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة ، وصلى عليه في جامع القصر والمنصور ، وكان الجمع يفوق الإحصاء . قال شيخنا ابن ناصر ، :
حزرتهم بثلاثمائة ألف ، ودفن في دكة الإمام أحمد وقبره ظاهر [فما كان في مذهبنا أحد مثله .
وقال شيخنا أبو الحسن الزعفراني: دفن في الدكة بعد الخادم مخلص] .
محمد بن أحمد بن الحسين ، أبو عبد الله اليزدي :
ولد سنة خمس وخمسين ، وسافر في طلب القراءات البلاد البائنة ، وعبر ما وراء النهر ، وكان إذا قرأ بكى الناس لحسن صوته ، وحدث بشيء يسير عن أبي إسحاق الشيرازي ، وتوفي في هذه السنة .
محمد بن طرخان بن بلتكين ، أبو بكر التركي:
سمع الكثير ، وكتب ، وكان له معرفة بالحديث ، والأدب ، وسمع الصريفيني ، وابن النقور ، وابن البسري . روى عنه أشياخنا ووثقوه .
توفي في صفر هذه السنة ، ودفن بالشونيزية .
محمد بن عبد الباقي ، أبو عبد الله الدوري:
ولد سنة أربع وثلاثين وأربعمائة ، وسمع الجوهري ، والعشاري ، وأبا بكر بن بشران ، وغيرهم . وكان شيخا صالحا ثقة خيرا . وتوفي في صفر هذه السنة .
المبارك بن علي بن الحسين ، أبو سعد المخرمي :
ولد في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة ، وسمع الحديث من أبي الحسين ابن المهتدي ، وابن المسلمة ، وجابر بن ياسين ، والصريفيني ، وأبي يعلى ابن الفراء ، وسمع منه شيئا من الفقه ، ثم تفقه على صاحبه أبي جعفر الشريف ، ثم على يعقوب البرزبيني ، وأفتى ودرس وجمع كتبا كثيرة ولم يسبق إلى جمع مثلها ، وشهد عند أبي الحسن الدامغاني في سنة تسع وثمانين ، وناب في القضاء عن السيبي والهروي ، وكان حسن السيرة جميل الطريقة شديد الأقضية ، وبنى مدرسة بباب الأزج ثم عزل عن القضاء في سنة إحدى عشرة ، ووكل به في الديوان على حساب وقوف الترب ، فأدى مالا .
ثم توفي في ثاني عشر محرم في هذه السنة ، ودفن إلى جانب أبي بكر الخلال عند رجلي الإمام أحمد بن حنبل .