وفاة صلاح الدين وبعض سيرته في سنة تسع وثمانين وخمسمائة ، في صفر ، توفي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي ، صاحب مصر والشام والجزيرة وغيرها من البلاد ، بدمشق ، ومولده بتكريت ، وقد ذكرنا سبب انتقالهم منها ، وملكهم مصر سنة أربع وستين وخمسمائة .
سبب مرض صلاح الدين واستشارته ولده وأخاه وكان سبب مرضه أن خرج يتلقى الحاج ، وذلك في يوم الاثنين حادي عشر صفر ، وقدم معهم ولد أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن فأكرمه واحترمه وعاد إلى القلعة المنصورة ، فدخلها من باب الحديد فكان ذلك آخر ما ركب في هذه الدنيا ، ثم إنه اعتراه حمى صفراوية ليلة السبت سادس عشر صفر فلما أصبح دخل عليه القاضي الفاضل وابن شداد وابنه الأفضل ، فأخذ يشكو إليهم كثرة قلقه البارحة ، وطاب له الحديث ، وطال مجلسهم عنده ، ثم تزايد به المرض واستمر وقصده الأطباء في اليوم الرابع فاعتراه يبس وحصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الأرض ، فقوي اليبس فأحضر الأمراء من الأكابر ، فبويع لولده الأفضل نور الدين علي نائبا على دمشق وذلك عندما ظهرت مخايل الضعف الشديد وغيبوبة الذهن في بعض الأوقات وكان الذين يدخلون عليه في هذه الحال القاضي الفاضل وابن شداد وقاضي البلد ابن الزكي وتفاقم الحال ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر واستدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الأمر فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في غمرات الموت فقرأ :
هو الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة فقال : وهو كذلك صحيح فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق ، فلما قرأ القارئ :
لا إله إلا هو عليه توكلت تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه ومات رحمه الله وأكرم مثواه وجعل جنة الفردوس مأواه وكان له من العمر سبع وخمسون سنة ، لأنه ولد بتكريت في شهور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة رحمه الله فقد كان ردءا للإسلام وحرزا وكهفا من كيد الكفرة اللئام وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبابه وأصحابه وقد غلقت الأسواق واحتفظ على الحواصل ، ثم أخذوا في تجهيزه وغسله وحضر جميع أولاده وأهله ، ويعز عليهم أن يأتوا بمثله ، وكان الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي ، وكان الذي أحضر الكفن ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال هذا وأولاده الكبار والصغار يبرزون وينادون ويبكون والناس في التعويل والانتحاب والابتهال ثم أبرز في تابوت بعد صلاة الظهر وأم الناس عليه القاضي ابن الزكي ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة ، وشرع ابنه في بناء تربة له ومدرسة للشافعية بالقرب من مسجد القدم لوصيته بذلك قديما ، فلم يكمل بناؤها ولم يتم ، وذلك حين قدم ولده العزيز وكان محاصرا لأخيه الأفضل كما سيأتي بيانه في سنة تسعين وخمسمائة ثم اشترى له الأفضل دارا شمالي الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة فجعلها له تربة هطلت سحائب الرحمة عليها ، ووصلت ألطاف الرأفة إليها ، وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين ، وصلى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرشي ابن الزكي عن إذن الأفضل له ، ودخل في لحده ولده الأفضل فدفنه بنفسه وهو يومئذ سلطان الشام ، وذلك لما له عليه من الحق والخدمة والإكرام ويقال : إنه دفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد والجلاد ، وذلك عن أمر القاضي الفاضل أحد الأجواد والأمجاد ، وتفاءلوا بأنه يكون معه يوم القيامة يتوكأ عليه حتى يدخل الجنة لما أنعم به عليه من كسر الأعداء ونصر الأولياء ، وأعظم عليه بتلك المنة ثم عمل عزاؤه بالجامع الأموي ثلاثة أيام ، يحضره الخواص والعوام والرعية والحكام وقد عمل الشعراء فيه مراثي كثيرة ، من أحسنها ما عمل العماد الكاتب في آخر كتابه " البرق الشامي " وهي مائتان واثنان وثلاثون بيتا وقد سردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في " الروضتين " فمنها قوله : في أولها :
شمل الهدى والملك عم شتاته والدهر ساء وأقلعت حسناته أين الذي مذ لم يزل مخشية
مرجوة رهباته وهباته أين الذي كانت له طاعاتنا
مبذولة ولربه طاعاته بالله أين الناصر الملك الذي
لله خالصة صفت نياته أين الذي ما زال سلطانا لنا
يرجى نداه وتتقى سطواته أين الذي شرف الزمان بفضله
وسمت على الفضلاء تشريفاته أين الذي عنت الفرنج لبأسه
ذلا ومنها أدركت ثاراته أغلال أعناق العدا أسيافه
أطواق أجياد الورى مناته
وللعماد الكاتب في الملك الناصر يرثيه :
من للعلا من للذرى من للهدى يحميه من للبأس من للنائل
طلب البقاء لملكه في آجل إذ لم يثق ببقاء ملك عاجل
بحر أعاد البر بحرا بره وبسيفه فتحت بلاد الساحل
من كان أهل الحق في أيامه وبعزه يردون أهل الباطل
وفتوحه والقدس من أبكارها أبقت له فضلا بغير مساجل
ما كنت أستسقي لقبرك وابلا ورأيت جودك مخجلا للوابل
فسقاك رضوان الإله لأنني لا أرتضي سقيا الغمام الهاطل
وكان قبل مرضه قد أحضر ولده الأفضل عليا وأخاه الملك العادل أبا بكر ، واستشارهما فيما يفعل ، وقال : قد تفرغنا من الفرنج ، وليس لنا في هذه البلاد شاغل فأي جهة نقصد ؟ فأشار عليه أخوه العادل بقصد خلاط ، لأنه كان قد وعده ، إذا أخذها ، أن يسلمها إليه .
وأشار [ عليه ] ولده الأفضل بقصد بلد الروم التي بيد أولاد قلج أرسلان ، وقال : هي أكثر بلادا وعسكرا ومالا ، وأسرع مأخذا ، وهي أيضا طريق الفرنج إذا خرجوا على البر ، فإذا ملكناها منعناهم من العبور فيها .
فقال : كلاكما مقصر ناقص الهمة ، بل أقصد أنا بلد الروم ، وقال لأخيه : تأخذ أنت بعض أولادي وبعض العسكر وتقصد خلاط ، فإذا فرغت أنا من بلد الروم جئت إليكم ، وندخل منها أذربيجان ، ونتصل ببلاد العجم ، فما فيها من يمنع عنها .
ثم أذن لأخيه العادل في المضي إلى الكرك ، وكان له ، وقال له : تجهز واحضر لتسير ، فلما سار إلى الكرك مرض صلاح الدين ، وتوفي قبل عوده .
أخلاق صلاح الدين وكان ، رحمه الله كريما ، حليما ، حسن الأخلاق ، متواضعا ، صبورا على ما يكره ، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه ، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه .
وبلغني أنه كان يوما جالسا وعنده جماعة ، فرمى بعض المماليك بعضا بسرموز فأخطأته ، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته ، ووقعت بالقرب منه ، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ليتغافل عنها .
وطلب مرة الماء فلم يحضر ، وعاود الطلب في مجلس واحد خمس مرات فلم يحضر ، فقال : يا أصحابنا ، والله قد قتلني العطش ! فأحضر الماء فشربه ولم ينكر التواني في إحضاره .
وكان مرة قد مرض مرضا شديدا أرجف عليه بالموت ، فلما برئ منه ، وأدخل الحمام كان الماء حارا ، فطلب ماء باردا ، فأحضره الذي يخدمه ، فسقط من الماء شيء على الأرض ، فناله منه شيء ، فتألم له لضعفه .
ثم طلب البارد أيضا فأحضر ، فلما قاربه سقطت الطاسة على الأرض ، فوقع الماء جميعه عليه ، فكاد يهلك ، فلم يزد على أن قال للغلام : إن كنت تريد قتلي ، فعرفني ! فاعتذر إليه ، فسكت عنه .
وأما تواضعه ، فإنه كان ظاهرا لم يتكبر على أحد من أصحابه ، وكان يعيب الملوك المتكبرين بذلك ، وكان يحضر عنده الفقراء والصوفية ويعمل لهم السماع ، فإذا قام أحدهم لرقص أو سماع يقوم له فلا يقعد حتى يفرغ الفقير .
ولم يلبس شيئا مما ينكره الشرع ، وكان عنده علم ومعرفة ، وبالجملة كان نادرا في عصره ، كثير المحاسن والأفعال الجميلة ، عظيم الجهاد في الكفار ، وفتوحه تدل على ذلك .
حال أهله وأولاده بعده لما مات صلاح الدين بدمشق كان معه بها ولده الأكبر الأفضل نور الدين علي ، وكان قد حلف له العساكر جميعها ، غير مرة في حياته ، فلما مات ملك دمشق ، والساحل ، والبيت المقدس وبعلبك ، وصرخد ، وبصرى وبانياس . وهونين وتبنين . وجميع الأعمال إلى الداروم .
وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر ، فاستولى عليها واستقر ملكه بها .
وكان ولده الظاهر غازي بحلب فاستولى عليها ، وعلى جميع أعمالها مثل : حارم ، وتل باشر ، وإعزاز وبرزية ، ودرب ساك ، ومنبج وغير ذلك .
وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصار معه .
وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه ، فأطاع الملك الأفضل .
وكان الملك العادل بالكرك قد سار إليه ، كما ذكرنا ، فامتنع فيه ولم يحضر عند أحد من أولاد أخيه ، فأرسل إليه الملك الأفضل يستدعيه ليحضر عنده فوعده ولم يفعل ، فأعاد مراسلته وخوفه من الملك العزيز صاحب مصر ، ومن أتابك عز الدين . صاحب الموصل ، فإنه كان قد سار عنها إلى بلاد العادل الجزرية على ما نذكره .
ويقول له : إن حضرت جهزت العساكر وسرت إلى بلادك فحفظتها ، وإن أقمت قصدك أخي الملك العزيز لما بينكما من العداوة ، وإذا ملك عز الدين بلادك فليس له دون الشام مانع .
وقال لرسوله : إن حضر معك وإلا فقل له قد أمرني : إن سرت إليه بدمشق عدت معك ، وإن لم تفعل أسير إلى الملك العزيز أحالفه على ما يختار .
فلما حضر الرسول عنده وعده بالمجيء ، فلما رأى أن ليس معه منه غير الوعد أبلغه ما قيل له في معنى موافقة العزيز ، فحينئذ سار إلى دمشق ، وجهز الأفضل معه عسكرا من عنده ، وأرسل إلى صاحب حمص ، وصاحب حماة ، وإلى أخيه الملك الظاهر بحلب ، يحثهم على إنفاذ العساكر مع العادل إلى البلاد الجزرية ليمنعها من صاحب الموصل ، ويخوفهم إن هم لم يفعلوا .
ومما قال لأخيه الظاهر : قد عرفت صحبة أهل الشام لبيت أتابك ، فوالله لئن ملك عز الدين حران ليقومن أهل حلب عليك ولتخرجن منها وأنت لا تعقل ، وكذلك يفعل بي أهل دمشق .
فاتفقت كلمتهم على تسيير العساكر معه ، فجهزوا عساكرهم وسيروها إلى العادل وقد عبر الفرات ، فعسكرت عساكرهم بنواحي الرها بمرج الريحان .
تركته ،
قال العماد وغيره : لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد صوري وستة وثلاثين درهما . وقال غيره : سبعة وأربعين درهما ، ولم يترك دارا ولا عقارا ولا مزرعة ولا بستانا ، ولا شيئا من أنواع الأملاك . هذا وله من الأولاد سبعة عشر ذكرا وابنة واحدة ، وتوفي له في بعض حياته غيرهم ، والذين تأخروا بعده ستة عشر ذكرا ، أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي ، ولد بمصر سنة خمس وستين ليلة عيد الفطر ، ثم العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ولد بمصر أيضا في جمادى الأولى سنة سبع وستين ، ثم الظافر مظفر الدين أبو العباس الخضر ، ولد بمصر في شعبان سنة ثمان وستين ، وهو شقيق الأفضل ، ثم الظاهر غياث الدين أبو منصور غازي ، ولد بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين ، ثم المعز فتح الدين أبو يعقوب إسحاق ، ولد بدمشق في ربيع الأول سنة سبعين ، ثم نجم الدين أبو الفتح مسعود ، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين ، وهو شقيق العزيز ، ثم الأغر شرف الدين أبو يوسف يعقوب ، ولد بمصر سنة ثنتين وسبعين ، وهو شقيق العزيز أيضا ، ثم الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود ، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين ، وهو شقيق الظاهر ، ثم أبو الفضل قطب الدين موسى ، وهو شقيق الأفضل ، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين أيضا ، ثم لقب بالمظفر ، ثم الأشرف معز الدين أبو عبد الله محمد ، ولد بالشام سنة خمس وسبعين ، ثم المحسن ظهير الدين أبو العباس أحمد ; ولد بمصر سنة سبع وسبعين ، وهو شقيق الذي قبله ، ثم المعظم فخر الدين أبو منصور تورانشاه ، ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين ، وتأخرت وفاته إلى سنة ثمان وخمسين وستمائة ، ثم الجوال ركن الدين أبو سعيد أيوب ولد سنة ثمان وسبعين ، وهو شقيق للمعز ، ثم الغالب نصير الدين أبو الفتح ملكشاه ، ولد في رجب سنة ثمان وسبعين وهو شقيق المعظم ، ثم المنصور أبو بكر أخو المعظم لأبويه ، ولد بحران بعد وفاة السلطان ، ثم عماد الدين شاذي لأم ولد ، ونصرة الدين مروان لأم ولد أيضا . وأما البنت فهي مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، رحمهم الله تعالى .
وإنما لم يخلف أموالا ولا أملاكا ; لكثرة عطاياه وهباته وصدقاته وإحسانه إلى أمرائه ووزرائه وأوليائه ، حتى إلى أعدائه ، وقد أسلفنا ما يدل على كثير من ذلك ، رحمه الله ، وقد كان متقللا في ملبسه ، ومأكله ، ومشربه ، ومركبه ، فلا يلبس إلا القطن والكتان والصوف ، ولا يعرف أنه تخطى مكروها بعد أن أنعم الله عليه بالملك ، بل كان همه الأكبر ومقصوده الأعظم نصر الإسلام ، وكسر الأعداء اللئام ، ويعمل فكره في ذلك ورأيه وحده مع من يثق برأيه ليلا ونهارا ، سرا وجهارا .
وهذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل ، والفوائد الفرائد ، في اللغة والأدب ، وأيام الناس ، حتى قيل : إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها وختامها . وكان مواظبا على الصلوات في أوقاتها في جماعة ، يقال : إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل حتى ولا في مرض موته ، كان يدخل الإمام فيصلي به فكان يتجشم القيام مع ضعفه ، رحمه الله .
وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة ، ويشارك في ذلك مشاركة قريبة حسنة ، وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها ، وكان قد جمع له القطب النيسابوري عقيدة فكان يحفظها ، ويحفظها من عقل من أولاده ، وكان يحب سماع القرآن العظيم ، ويواظب على سماع الحديث حتى إنه سمع في بعض المصافات جزءا ، وهو بين الصفين ، فكان يتبجح بذلك ويقول : هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثا . وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب .
وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث ، كثير التعظيم لشعائر الدين ; كان قد لجأ إلى ولده الظاهر ، وهو بحلب ، شاب يقال له : الشهاب السهروردي ، وكان يعرف الكيميا وشيئا من الشعبذة ، والأبواب النيرنجيات ، فافتتن به ولد السلطان الظاهر ، وقربه وأحبه ، وخالف فيه حملة الشرع ، فكتب إليه أن يقتله لا محالة فصلبه عن أمر والده ، وشهره ، ويقال : بل حبسه بين حائطين حتى مات كمدا ، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة .
وكان السلطان صلاح الدين ، رحمه الله ، من أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا ، مع ما كان يعتري جسمه من الأمراض والأسقام ، ولاسيما وهو مرابط مصابر مثابر عند عكا ; فإنه كان مع كثرة جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة ، وقد بلغت جموعهم خمسمائة ألف مقاتل ، ويقال : ستمائة ألف . وكان جملة من قتل منهم مائة ألف مقاتل .
ولما انفصل الحال ، وتسلموا عكا وقتلوا أكثر من كان بها ، وساروا برمتهم نحو بيت المقدس ; جعل يسايرهم منزلة منزلة ، ومرحلة مرحلة وجيوشهم أضعاف أضعاف من معه ، ومع هذا نصره الله وخذلهم ، وأيده وقتلهم ، وسبقهم إلى البيت المقدس ، فصانه وحماه ، وشيد بنيانه ، وأطد أركانه ، وصان حماه ولم يزل بجيشه مقيما به يرهبهم ويرعبهم ، ويغلبهم ويسلبهم ويكسرهم ويأسرهم ، حتى تضرعوا إليه ، وخضعوا لديه ، ودخلوا عليه أن يصالحهم ويتاركهم ، وتضع الحرب أوزارها بينهم وبينه فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذي أراده ، لا ما يريدونه ، وكان ذلك من جملة الرحمة التي خص بها المؤمنون ; فإنه ما انقضت تلك السنون حتى ملك البلاد أخوه أبو بكر العادل ، فعز به المسلمون ، وذل به الكافرون .
وكان رحمه الله سخيا كريما حييا ضحوك الوجه كثير البشر ، لا يتضجر من خير يفعله ، شديد المصابرة والمثابرة على الخيرات والطاعات فرحمه الله ، وأسكنه الجنات . تقسيم صلاح الدين البلاد بين أولاده كان السلطان الملك صلاح الدين قد قسم البلاد بين أولاده ، فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين عثمان أبي الفتح ، وبلاد دمشق وما حولها لولده الأفضل نور الدين علي ، وهو أكبر أولاده كلهم ، والمملكة الحلبية لولده الظاهر غازي غياث الدين ، ولأخيه العادل الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلاد كثيرة قاطع الفرات ، وحماة ومعاملة أخرى معها للملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر ابن أخي السلطان ، وحمص والرحبة وغيرها لأسد الدين بن شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير ، عم صلاح الدين أخي أبيه نجم الدين أيوب ، واليمن بمعاقله ومخاليفه جميعه في قبضة السلطان ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخي السلطان صلاح الدين ، وبعلبك وأعمالها للأمجد بهرام شاه بن فروخشاه ، وبصرى وأعمالها للظافر بن الناصر ، ثم شرعت الأمور بعد
موت صلاح الدين تضطرب وتختلف وتتفاقم في جميع هذه الأحوال ، حتى آل الأمر إلى ما آل إليه ، واستقرت الممالك ، واجتمعت المحافل على أخي السلطان ، الملك العادل ، وصارت المملكة في أولاده الأماجد الأفاضل ، إن شاء الله تعالى .