ملك العادل الديار المصرية

قد ذكرنا سنة خمس وتسعين [ وخمسمائة ] ، حصر الأفضل والظاهر ولدي صلاح الدين دمشق ، ورحيلهما إلى رأس الماء ، على عزم المقام بحوران إلى أن يخرج الشتاء ، فلما أقاموا برأس الماء وجد العسكر بردا شديدا ، لأن البرد في ذلك المكان في الصيف موجود ، فكيف في الشتاء ، فتغير العزم عن المقام ، واتفقوا على أن يعود كل إنسان منهم إلى بلده ، ويعودوا إلى الاجتماع ، فتفرقوا تاسع ربيع الأول ، فعاد الظاهر وصاحب حمص إلى بلادهما ، وسار الأفضل إلى مصر فوصل بلبيس ، فأقام بها ، ووصلته الأخبار بأن عمه الملك العادل قد سار من دمشق قاصدا مصر ومعه المماليك الناصرية ، وقد حلفوه على أن يكون ولد الملك العزيز هو صاحب البلاد ، وهو المدبر للملك ، إلى أن يكبر ، فساروا على هذا .

وكان عسكره بمصر قد تفرق عن الأفضل من الخشبي ، فسار كل منهم إلى إقطاعه ليربعوا دوابهم ، فرام الأفضل جمعهم من أطراف البلاد ، فأعجله الأمر عن ذلك ، ولم يجتمع منهم إلا طائفة يسيرة ممن قرب إقطاعه ، ووصل العادل ، فأشار بعض الناس على الأفضل أن يخرب سور بلبيس ويقيم بالقاهرة ، وأشار غيرهم بالتقدم إلى أطراف البلاد ، ففعل ذلك ، فسار عن بلبيس ، ونزل موضعا يقال له السائح إلى طرف البلاد ، وكان لقاء العادل قبل دخول البلاد سابع ربيع الآخر ، فانهزم الأفضل ، ودخل القاهرة ليلا .

وفي تلك الليلة توفي القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني كاتب الإنشاء لصلاح الدين ووزيره ، فحضر الأفضل الصلاة عليه ، وسار العادل فنزل على القاهرة وحصرها ، فجمع الأفضل من عنده من الأمراء واستشارهم ، فرأى منهم تخاذلا ، فأرسل رسولا إلى عمه في الصلح وتسليم البلاد إليه ، وأخذ العوض عنها ، وطلب دمشق ، فلم يجبه العادل ، فنزل عنها [ إلى ] حران والرها فلم يجبه ، فنزل إلى ميافارقين وحاني وجبل جور ، فأجابه إلى ذلك ، وتحالفوا عليه ، وخرج الأفضل من مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر ، واجتمع بالعادل ، وسار إلى صرخد ، ودخل العادل إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر .

ولما وصل الأفضل إلى صرخد أرسل من تسلم ميافارقين وحاني وجبل جور ، فامتنع نجم الدين أيوب ابن الملك العادل من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها ، فترددت الرسل بين الأفضل والعادل في ذلك ، والعادل يزعم أن ابنه عصاه ، فأمسك عن المراسلة في ذلك لعلمه أن هذا فعل بأمر العادل .

واستبد العادل بملك مصر آمنا من الشركة ، ونزل إليه ابن أخيه الأفضل خاضعا ذليلا بعدما كان مهيبا جليلا ، فأقطعه بلادا من الجزيرة ونفاه عن الشام لسوء السيرة ، ودخل العادل إلى دار السلطان بالقاهرة ، وأعاد القضاء إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس الماراني الكردي ، وأبقى الخطبة والسكة باسم ابن أخيه المنصور ، وكان هو المستقل بالأمور ، واستوزر الصاحب صفي الدين بن شكر لصرامته وشهامته وسيادته وديانته ، وكتب العادل إلى ولده الكامل يستدعيه من بلاد الجزيرة ; ليملكه على الديار المصرية ويسترعيه ، فقدم عليه فأكرمه واحترمه وعانقه والتزمه ، وأحضر الملك الفقهاء واستفتاهم في صحة مملكة ابن أخيه المنصور بن العزيز ، وأنه صغير ابن عشر سنين ، فأفتوا بأن ولايته لا تصح ; لأنه متولى عليه ، فعند ذلك طلب الأمراء ودعاهم إلى مبايعته فامتنعوا ، فأرغبهم وأرهبهم ، وقال فيما قال : قد سمعتم ما أفتى به العلماء والأئمة والفقهاء ، وقد علمتم أن ثغور المسلمين لا يحفظها الأطفال الصغار ، وإنما يحرسها الملوك الكبار ، فأذعنوا عند ذلك وبايعوه ، ثم من بعده لولده الكامل ، فخطب الخطباء بذلك بعد الخليفة لهما ، فضربت السكة باسمهما ، واستقرت دمشق باسم المعظم عيسى بن العادل ، ومصر باسم الكامل .

التالي السابق


الخدمات العلمية