ذكر عدة حوادث
في سنة سبع وستمائة، في شهر ربيع الآخر ، درس القاضي أبو زكريا يحيى بن القاسم بن المفرج ، قاضي تكريت ، بالمدرسة النظامية ببغداد استدعي من تكريت إليها .
وفيها نقصت دجلة بالعراق نقصا كثيرا ، حتى كان الماء يجري ببغداد في نحو خمسة أذرع ، وأمر الخليفة أن يكرى دجلة ، فجمع الخلق الكثير ، وكانوا كلما حفروا شيئا عاد الرمل فغطاه ، وكان الناس يخوضون دجلة فوق بغداد ، وهذا لم يعهد مثله .
وحج بالناس هذه السنة علاء الدين محمد ولد الأمير مجاهد الدين ياقوت أمير الحاج ، وكان أبوه قد ولاه الخليفة خوزستان ، وجعله هو أمير الحاج ، وجعل معه من يدبر الحاج ، لأنه كان صبيا . ذكر الشيخ شهاب الدين في " الذيل " أن في هذه السنة تمالأت ملوك الجزيرة; صاحب الموصل وصاحب سنجار ، وصاحب إربل ، ومعهم ابن أخيه الظاهر صاحب حلب وملك الروم أيضا ، على
مخالفة العادل ومنابذته ومقاتلته واصطلام الملك من يده ، وأن تكون الخطبة للملك كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب الروم ، وأرسلوا إلى الكرج ليقدموا لحصار خلاط وأخذها من يد الملك الأوحد بن العادل ، ووعدهم النصر والمعاونة عليه . قلت : وهذا بغي وعدوان ينهى الله عنه ، فأقبلت الكرج بملكهم إيواني ، فحاصروا خلاط ، فضاق بهم الأوحد ذرعا ، وقال : هذا يوم عصيب . فقدر الله تعالى أن في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر اشتد حصارهم للبلد ، وأقبل ملكهم إيواني وهو راكب على جواده وهو سكران ، فسقط به جواده في بعض الحفر التي قد أعدت مكيدة حول البلد ، فبادر إليه رجال البلد ، فأخذوه أسيرا حقيرا ، فأسقط في أيدي الكرج ، فلما أوقف بين يدي الأوحد أطلقه ومن عليه ، وأكرمه وأحسن إليه ، وفاداه على مائتي ألف دينار وألفي أسير من المسلمين ، وتسليم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لبلاد الأوحد ، وأن يزوج ابنته من أخيه الملك الأشرف موسى ، وأن يكون عونا له على من يحاربه ، فأجابه إلى ذلك كله ، فأخذت الأيمان منه بذلك ، وبعث الأوحد إلى أبيه يستأذنه في ذلك كله ، والعادل نازل بظاهر حران في أشد حيرة مما قد دهمه من الأمر الفظيع ، فبينما هو كذلك إذ أتاه هذا الأمر الهائل والتدبير من عزيز حكيم ، لم يكن في باله ولا حسابه ، فكاد يذهل فرحا وسرورا ، وأجاز جميع ما فعله ولده ، وطارت الأخبار بما وقع بين الملوك ، فخضعوا وذلوا عند ذلك ، وأرسل كل منهم يعتذر مما نسب إليه ، ويحيل على غيره ، فقبل منهم اعتذاراتهم ، وصالحهم صلحا أكيدا ، واستقبل الملك عقدا جديدا . ووفى ملك الكرج للأوحد بجميع ما شرطه عليه ، وتزوج الأشرف ابنته . ومن غريب ما ذكره الشيخ أبو شامة في هذه الكائنة أن قسيس الملك كان حزاء ينظر في النجوم ، فقال للملك قبل ذلك بيوم : اعلم أنك تدخل غدا إلى قلعة خلاط ولكن بزي غير زيك أذان العصر . فوافق دخوله إليها أسيرا وقت أذان العصر . قال أبو شامة : وفي سابع شوال شرع في عمارة المصلى; بني له أربع جدر مشرفة ، وجعل له أبواب صونا لمكانه من الميتات ونزول القوافل ، وجعل في قبلته محراب من حجارة ومنبر من حجارة ، وعقدت فوق ذلك قبة ، ثم في سنة ثلاث عشرة عمل في قبلته رواقان ، وعمل له منبر من خشب ، ورتب له خطيب راتب وإمام راتب ، ومات العادل ولم يتم الرواق الثاني منه ، وذلك كله على يد الوزير صفي الدين بن شكر . قال : وفي حادي عشر شوال من هذه السنة جددت أبواب الجامع الأموي من ناحية باب البريد بالنحاس الأصفر ، وركبت في أماكنها .
وفي شوال أيضا شرع في إصلاح الفوارة والشاذروان والبركة وعمل عندها مسجد ، وجعل له إمام راتب ، وأول من تولاه رجل يقال له : النفيس المصري .
وكان يقال له : بوق الجامع ، لطيب صوته إذا قرأ على الشيخ أبي منصور الضرير المصدر ، فيجتمع عليه الناس الكثير .
وفي ذي الحجة منها توجهت مراكب من عكا في البحر إلى ثغر دمياط وفيها ملك قبرس المسمى البال ، لعنه الله ، فدخل الثغر ليلا ، وأغار على بعض البلاد ، فقتل وسبى وغنم ، وكر راجعا ، فركب مراكبه ، فلم يدركه الطلب . وقد تقدمت له سابقة بمثلها قبل هذه ، وهذا شيء لم يتفق لغيره .
وفي هذه السنة عاثت الفرنج بنواحي القدس الشريف فبرز إليهم الملك المعظم في عساكره ، وجلس الشيخ شمس الدين أبو المظفر بن قزغلي الحنفي ، وهو سبط الشيخ أبي الفرج بن الجوزي ابن ابنته رابعة ، وهو صاحب " مرآة الزمان " ، وكان فاضلا في فنون كثيرة ، حسن الشكل ، طيب الصوت ، وكان يتكلم في الوعظ جيدا ، وتحبه العامة على صيت جده ، وقد رحل من بغداد ، فنزل دمشق وأكرمه ملوكها ، وولي التداريس الكبار بها ، وكان يجلس كل يوم سبت عند باب مشهد علي زين العابدين إلى السارية التي يجلس عندها الوعاظ في زماننا هذا ، فكان يكثر الجمع عنده حتى يكونوا من باب الناطفانيين إلى باب المشهد وإلى باب الساعات غير الوقوف ، فحزر جمعه في بعض الأيام بثلاثين ألفا من الرجال والنساء ، وكان الناس يبيتون ليلة السبت بالجامع في الصيف ويتركون البساتين والفرح في ختمات وأذكار لتحصيل الأماكن بميعاده ، فإذا فرغ من وعظه خرجوا إلى بساتينهم ، وليس لهم كلام إلا فيما قال يومهم ذلك .
ويحضر عنده الأكابر ، حتى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي كان يجلس في القبة التي عند باب المشهد هو ووالي البلد المعتمد ووالي البر ابن ثميرك وغيرهم . فلما جلس يوم السبت خامس ربيع الأول بالجامع - كما ذكرنا - حث الناس على الجهاد ، وأمر بإحضار ما كان قد تحصل عنده من شعور التائبين ، وقد عمل منه شكالات يحملها الرجال ، فلما رآها الناس ضجوا ضجة واحدة ، وتباكوا بكاء كثيرا ، وقطعوا من شعورهم نحوها ، فلما انقضى المجلس ، ## ونزل عن المنبر ، فتلقاه الوالي مبارز الدين المعتمد إبراهيم ، وكان من خيار الناس ، فمشى بين يديه إلى باب الناطفانيين يعضده حتى ركب فرسه ، والناس من بين يديه ومن خلفه ، فخرج من باب الفرج وباب المصلى ، ثم ركب من الغد في الناس إلى الكسوة ، ومعه خلائق كثيرون بنية الجهاد إلى بلاد القدس وكان من جملة من معه ثلاثمائة من أهل زملكا بالعدد التامة . قال : فجئنا عقبة أفيق ، والطير لا يتجاسر أن يطير من خوف الفرنج ، فلما وصلنا نابلس تلقانا المعظم . قال : ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك ، فلما رأى الشكالات من شعور التائبين جعل يقبلها ، ويمرغها على وجهه ويبكي . وعمل أبو المظفر ميعادا بنابلس ، وحث على الجهاد ، وكان يوما مشهودا ، ثم ساروا صحبة المعظم إلى ناحية بلاد الفرنج ، فقتلوا خلقا ، وخربوا أماكن كثيرة ، وغنموا وعادوا سالمين ، وشرع المعظم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه; ليكون ألبا على الفرنج ، فغرم أموالا كثيرة في ذلك ، فبعث الفرنج إلى العادل يطلبون منه الأمان والمصالحة ، فهادنهم وبطلت تلك العمارة ، وضاع ما كان المعظم غرم عليها .