وفاة الملك الظاهر صاحب حلب
في سنة ثلاث عشرة وستمائة ، في جمادى الآخرة ، توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وهو صاحب مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام ، وكان مرضه إسهالا ، وكان من خيار الملوك وأسدهم سيرة ، ولكن كان فيه عسف ويعاقب على الذنب سريعا شديدا ، وكان يكرم العلماء والشعراء والفقراء ، أقام في الملك ثلاثين سنة ، وحضر كثيرا من الغزوات مع أبيه ، وكان ذكيا ، له رأي جيد ، وعبارة سادة ، وفطنة حسنة ، وعمر أربعا وأربعين سنة ، ولما حضرته الوفاة جعل الملك من بعده لولده الملك العزيز غياث الدين محمد وهو ابن ثلاث سنين ، وقد كان له أولاد كبار ، ولكنه عهد إلى هذا من بينهم لأنه كان من بنت عمه العادل ، وأخواله الأشرف والمعظم والكامل وجده العادل لا ينازعونه ، وهكذا وقع سواء ; بايع له جده العادل وخاله الأشرف صاحب حران والرها وخلاط ، وهم المعظم بنقض ذلك ، فلم يتفق له ذلك . ومن أعجب ما يحكى أن الملك الظاهر ، قبل مرضه ، أرسل رسولا إلى عمه العادل بمصر ، يطلب منه أن يحلف لولده الصغير ، فقال العادل : سبحان الله ! أي حاجة إلى هذه اليمين ؟ الملك الظاهر مثل بعض أولادي . فقال الرسول : قد طلب هذا واختاره ، ولا بد من إجابته إليه . فقال العادل : كم من كبش في المرعى وخروف عند القصاب ، وحلف .
فاتفق في تلك الأيام أن توفي الملك الظاهر والرسول في الطريق ، ولما عهد الظاهر إلى ولده بالملك جعل أتابكه ومربيه خادما روميا ، اسمه طغرل ، ولقبه شهاب الدين ، وهو من خيار عباد الله ، كثير الصدقة والمعروف .
ولما توفي الظاهر ، أحسن شهاب الدين هذا السيرة في الناس ، وعدل فيهم ، وأزال كثيرا من السنن الجارية ، وأعاد أملاكا كانت قد أخذت من أربابها ، وقام بتربية الطفل أحسن قيام ، وحفظ بلاده ، واستقامت الأمور بحسن سيرته وعدله ، وملك ما كان يتعذر على الظاهر ملكه ، فمن ذلك تل باشر ، كان الملك الظاهر لا يقدر أن يتعرض إليه ، فلما توفي ملكها كيكاوش ، ملك الروم - كما نذكره إن شاء الله تعالى - انتقلت إلى شهاب الدين ، وما أقبح بالملوك وأبناء الملوك أن يكون هذا الرجل الغريب المنفرد أحسن سيرة ، وأعف عن أموال الرعية ، وأقرب إلى الخير منهم ، ولا أعلم اليوم في ولاة أمور المسلمين أحسن سيرة منه ، فالله يبقيه ، ويدفع عنه ، فلقد بلغني عنه كل حسن وجميل .