مدينة دمياط وعودها إلى المسلمين كان من أول هذه الحادثة إلى آخرها أربع سنين غير شهر ، وإنما ذكرناها هاهنا ؛ لأن ظهورهم كان فيها وسقناها سياقة متتابعة ليتلو بعضها بعضا ، فنقول : في هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر من رومية الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال ، إلا أن المتولي لها كان صاحب رومية ، لأنه يتنزل عند الفرنج بمنزلة عظيمة ، لا يرون مخالفة أمره ولا العدول عن حكمه فيما سرهم وساءهم ، فجهز العساكر من عنده مع جماعة من مقدمي الفرنج ، وأمر غيره من ملوك الفرنج إما أن يسير بنفسه ، أو يرسل جيشا ، ففعلوا ما أمرهم فاجتمعوا بعكا من ساحل الشام .
وكان الملك العادل أبو بكر بن أيوب بمصر ، فسار منها إلى الشام ، فوصل إلى الرملة ، ومنها إلى لد ، وبرز الفرنج من عكا ليقصدوه ، فسار العادل نحوهم ، فوصل إلى نابلس عازما على أن يسبقهم إلى أطراف البلاد مما يلي عكا ليحميها منهم ، فساروا هم فسبقوه ، فنزل على بيسان من الأردن ، فتقدم الفرنج إليه في شعبان عازمين على محاربته لعلمهم أنه في قلة من العسكر ، لأن العساكر كانت متفرقة في البلاد .
فلما رأى العادل قربهم منه لم ير أن يلقاهم في الطائفة التي معه ، خوفا من هزيمة تكون عليه ، وكان حازما ، كثير الحذر ، ففارق بيسان نحو دمشق ليقيم بالقرب منها ، ويرسل إلى البلاد ويجمع العساكر ، فوصل إلى مرج الصفر فنزل فيه .
وكان أهل بيسان ، وتلك الأعمال ، لما رأوا الملك العادل عندهم اطمأنوا ، فلم يفارقوا بلادهم ظنا منهم أن الفرنج لا يقدمون عليه ، فلما أقدموا سار على غفلة من الناس ، فلم يقدر على النجاة إلا القليل ، فأخذ الفرنج كل ما في بيسان من ذخائر قد جمعت ، وكانت كثيرة ، وغنموا شيئا كثيرا ، ونهبوا البلاد من بيسان إلى بانياس ، وبثوا السرايا في القرى فوصلت إلى خسفين ونوى وأطراف البلاد ، ونازلوا بانياس ، وأقاموا عليها ثلاثة أيام ، ثم عادوا عنها إلى مرج عكا ومعهم من الغنائم والسبي والأسرى ما لا يحصى كثرة ، سوى ما قتلوا ، وأحرقوا ، وأهلكوا ، فأقاموا أياما استراحوا خلالها .
ثم جاءوا إلى صور ، وقصدوا بلد الشقيف ، ونزلوا بينهم وبين بانياس مقدار فرسخين ، فنهبوا البلاد : صيدا والشقيف ، وعادوا إلى عكا ، وكان هذا من نصف رمضان إلى العيد ، والذي سلم من تلك البلاد كان مخفا حتى قدر على النجاة .
ولقد بلغني أن العادل لما سار إلى مرج الصفر رأى في طريقه رجلا يحمل شيئا ، وهو يمشي تارة ، وتارة يقعد ليستريح ، فعدل العادل إليه وحده ، فقال له : يا شيخ لا تعجل ، وارفق بنفسك فعرفه الرجل ، فقال : يا سلطان المسلمين ! أنت لا تعجل ، فإنا إذا رأيناك قد سرت إلى بلادك وتركتنا مع الأعداء كيف لا نعجل !
وبالجملة الذي فعله العادل هو الحزم والمصلحة لئلا يخاطر باللقاء على حال تفرق من العساكر . ولما نزل العادل على مرج الصفر سير ولده الملك المعظم عيسى ، وهو صاحب دمشق ، في قطعة صالحة من الجيش إلى نابلس ليمنع الفرنج عن البيت المقدس .
حصار الفرنج قلعة الطور وتخريبها حصر الفرنج قلعة الطور وتخريبها
لما نزل الفرنج بمرج عكا تجهزوا ، وأخذوا معهم آلة الحصار من مجانيق وغيرها ، وقصدوا قلعة الطور ، وهي قلعة منيعة على رأس جبل بالقرب من عكا كان العادل قد بناها عن قريب ، فتقدموا إليها وحصروها وزحفوا إليها ، وصعدوا في جبلها حتى وصلوا إلى سورها وكادوا يملكونه .
فاتفق أن بعض المسلمين ممن فيها قتل بعض ملوكهم ، فعادوا عن القلعة فتركوها ، وقصدوا عكا ، وكانت مدة مقامهم على الطور سبعة عشر يوما .
ولما فارقوا الطور أقاموا قريبا ، ثم ساروا في البحر إلى ديار مصر ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى ، فتوجه الملك المعظم إلى قلعة الطور ، فخربها إلى أن ألحقها بالأرض ; لأنها بالقرب من عكا ويتعذر حفظها .
حصر الفرنج دمياط إلى أن ملكوها
لما عاد الفرنج من حصار الطور أقاموا بعكا إلى أن دخلت سنة خمس عشرة وستمائة ، فساروا في البحر إلى دمياط ، فوصلوا في صفر ، فأرسوا على بر الجيزة ، بينهم وبين دمياط النيل ، فإن بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط ، وقد بني في النيل برج كبير منيع ، وجعلوا فيه سلاسل من حديد غلاظ ، ومدوها في النيل إلى سور دمياط لتمنع المراكب الواصلة في البحر المالح أن تصعد في النيل إلى ديار مصر ، ولولا هذا البرج وهذه السلاسل لكانت مراكب العدو لا يقدر أحد على منعها عن أقاصي ديار مصر وأدانيها .
فلما نزل الفرنج على بر الجيزة ، وبينهم وبين دمياط النيل ، بنوا عليه سورا ، وجعلوا خندقا يمنعهم ممن يريدهم ، وشرعوا في قتال من بدمياط ، وعملوا آلات ، ومرمات ، وأبراجا يزحفون بها في المراكب إلى هذا البرج ليقاتلوه ويملكوه .
وكان البرج مشحونا بالرجال ، وقد نزل الملك الكامل ابن الملك العادل ، وهو صاحب ديار مصر ، بمنزلة تعرف بالعادلية ، بالقرب من دمياط ، والعساكر متصلة من عنده إلى دمياط ، ليمنع العدو من العبور إلى أرضها .
وأدام الفرنج قتال البرج وتابعوه ، فلم يظفروا منه بشيء ، وكسرت مرماتهم وآلاتهم ، ومع هذا فهم ملازمون لقتاله ، فبقوا كذلك أربعة أشهر ولم يقدروا على أخذه ; فلما ملكوه قطعوا السلاسل لتدخل مراكبهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر ، فنصب الملك الكامل عوض السلاسل جسرا عظيما امتنعوا به من سلوك النيل ، ثم إنهم قاتلوا عليه أيضا قتالا شديدا ، كثيرا متتابعا حتى قطعوه ، فلما قطع أخذ الملك الكامل عدة مراكب كبار وملأها وخرقها وغرقها في النيل ، فمنعت المراكب من سلوكه .
فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجا هناك يعرف بالأرزق ، كان النيل يجري فيه قديما ، فحفروا ذلك الخليج وعمقوه فوق المراكب التي جعلت في النيل ، وأجروا الماء فيه إلى البحر المالح ، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يقال له بورة ، على أرض الجيزة أيضا ، مقابل المنزلة التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك ، فإنهم لم يكن لهم إليه طريق يقاتلونه فيها ، كانت دمياط تحجز بينهم وبينه ، فلما صاروا في بورة حاذوه فقاتلوه في الماء ، وزحفوا غير مرة ، فلم يظفروا بطائل .
ولم يتغير على أهل دمياط شيء ; لأن الميرة والأمداد متصلة بهم ، والنيل يحجز بينهم وبين الفرنج ، فهم ممتنعون لا يصل إليهم أذى ، وأبوابها مفتحة ، وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر .
وفاة الملك العادل فاتفق ، كما يريد الله - عز وجل - أن الملك العادل توفي في جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة - على ما نذكره إن شاء الله - فضعفت نفوس الناس لأنه السلطان حقيقة ، وأولاده ، وإن كانوا ملوكا إلا أنهم بحكمه ، والأمر إليه ، وهو ملكهم البلاد ، فاتفق موته والحال هكذا من مقاتلة العدو .
وكان من جملة الأمراء بمصر أمير يقال له عماد الدين أحمد بن علي ، ويعرف بابن المشطوب ، وهو من الأكراد الهكارية ، وهو أكبر أمير بمصر ، وله لفيف كثير ، وجميع الأمراء ينقادون إليه ويطيعونه لا سيما الأكراد ، فاتفق هذا الأمر مع غيره من الأمراء ، وأرادوا أن يخلعوا الملك الكامل من الملك ، ويملكوا أخاه الملك الفائز بن العادل ليصير الحكم إليهم عليه وعلى البلاد ، فبلغ الخبر إلى الكامل ، ففارق المنزلة ليلا جريدة ، وسار إلى قرية يقال لها أشموم طناح ، فنزل عندها ، وأصبح العسكر وقد فقدوا سلطانهم ، فركب كل إنسان منهم هواه ، ولم يقف الأخ على أخيه ، ولم يقدروا على أخذ شيء من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلا اليسير الذي يخف حمله ، وتركوا الباقي بحاله من ميرة ، وسلاح ، ودواب ، وخيام وغير ذلك ، ولحقوا بالكامل .
وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد ، فلم يروا من المسلمين أحدا على شاطئ النيل كجاري عادتهم ، فبقوا لا يدرون ما الخبر ، وإذ قد أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقته ، فعبروا حينئذ النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازع ولا ممانع ، وكان عبورهم في العشرين من ذي القعدة سنة خمس عشرة وستمائة ، فغنموا ما في معسكر المسلمين ، فكان عظيما يعجز العادين .
وكان الملك الكامل يفارق الديار المصرية لأنه لم يثق بأحد من عسكره ، وكان الفرنج ملكوا الجميع بغير تعب ولا مشقة ، فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل وصل إلى أخيه الكامل بعد هذه الحركة بيومين ، والناس في أمر مريج ، فقوي به قلبه واشتد ظهره ، وثبت جنانه ، وأقام بمنزلته ، وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشام ، فاتصل بالملك الأشرف وصار من جنده .
فلما عبر الفرنج إلى أرض دمياط اجتمعت العرب على اختلاف قبائلها ، ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط ، وقطعوا الطريق ، وأفسدوا ، وبالغوا في الإفساد ، فكانوا أشد على المسلمين من الفرنج ، وكان أضر شيء على أهل دمياط أنها لم يكن بها من العسكر أحد ; لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدو عنها ، فأتتهم هذه الحركة بغتة ، فلم يدخلها أحد من العسكر ، وكان ذلك من فعل ابن المشطوب ، لا جرم لم يمهله الله ، وأخذه أخذة رابية ، على ما نذكره إن شاء الله .
حصار الفرنج دمياط وأحاط الفرنج بدمياط ، وقاتلوها برا وبحرا ، وعملوا عليهم خندقا يمنعهم ممن يريدهم من المسلمين ، وهذه كانت عادتهم ، وأداموا القتال ، واشتد الأمر على أهلها ، وتعذرت عليهم الأقوات وغيرها ، وسئموا القتال وملازمته ، لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتهم ، وليس بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتال بينهم مناوبة ، ومع هذا فقد صبروا صبرا لم يسمع بمثله ، وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض ، ودام الحصار عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة ، فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلتهم ، وتعذر القوت عندهم ، فسلموا البلد إلى الفرنج ، في هذا التاريخ ، بالأمان ، فخرج منهم قوم وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة ، فتفرقوا أيدي سبا .
ملك المسلمين دمياط من الفرنج
لما ملك الفرنج دمياط أقاموا بها ، وبثوا سراياهم في كل ما جاورهم من البلاد ، ينهبون ويقتلون ، فجلا أهلها عنها ، وشرعوا في عمارتها وتحصينها ، وبالغوا في ذلك حتى إنها بقيت لا ترام .
وأما الملك الكامل فإنه أقام بالقرب منهم في أطراف بلاده يحميها منهم .
ولما سمع الفرنج في بلادهم بفتح دمياط على أصحابهم أقبلوا إليهم يهرعون من كل فج عميق ، وأصبحت دار هجرتهم ، وعاد الملك المعظم صاحب دمشق إلى الشام فخرب البيت المقدس ، وإنما فعل ذلك لأن الناس كافة خافوا الفرنج ، وأشرف الإسلام وجميع أهله وبلاده على خطة خسف في شرق الأرض وغربها : أقبل التتر من المشرق حتى وصلوا إلى نواحي العراق وأذربيجان وأران وغيرها ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى ; وأقبل الفرنج من المغرب فملكوا مثل دمياط في الديار المصرية ، مع عدم الحصون المانعة بها من الأعداء ، وأشرف سائر البلاد بمصر والشام على أن تملك ، وخافهم الناس كافة ، وصاروا يتوقعون البلاء صباحا ومساء .
وأراد أهل مصر الجلاء عن بلادهم خوفا من العدو ، (
ولات حين مناص ) ، والعدو قد أحاط بهم من كل جانب ، ولو مكنهم الكامل من ذلك لتركوا البلاد خاوية على عروشها ، وإنما منعوا منه فثبتوا .
وتابع الملك الكامل كتبه إلى أخويه المعظم صاحب دمشق ، والملك الأشرف موسى بن العادل ، صاحب ديار الجزيرة وأرمينية وغيرهما ، يستنجدهما ، ويحثهما على الحضور بأنفسهما ، فإن لم يكن فيرسلان العساكر إليه ، فسار صاحب دمشق إلى الأشرف بنفسه بحران ، فرآه مشغولا عن إنجادهم بما دهمه من اختلاف الكلمة عليه ، وزوال الطاعة عن كثير ممن كان يطيعه ، ونحن نذكر ذلك سنة خمس عشرة وستمائة - إن شاء الله - عند وفاة الملك القاهر ، صاحب الموصل ، فليطلب من هناك ; فعذره ، وعاد عنه ، وبقي الأمر كذلك مع الفرنج .
فأما الملك الأشرف فزال الخلف من بلاده ، ورجع الملوك الخارجون عن طاعته إليه ، واستقامت له الأمور إلى سنة ثماني عشرة وستمائة ، والملك الكامل مقابل الفرنج .
فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة علم بزوال مانع الملك الأشرف عن إنجاده ، فأرسل يستنجده وأخاه ، صاحب دمشق ، فسار صاحب دمشق المعظم إلى الأشرف يحثه على المسير ، ففعل ، وسار إلى دمشق فيمن معه من العساكر ، وأمر الباقين باللحاق به إلى دمشق ، وأقام بها ينتظرهم ، فأشار عليه بعض أمرائه وخواصه بإنفاذ العساكر والعود إلى بلاده خوفا من اختلاف يحدث بعده ، فلم يقبل قولهم ، وقال قد خرجت للجهاد ، ولا بد من إتمام ذلك العزم ، فسار إلى مصر .
وكان الفرنج قد ساروا عن دمياط في الفارس والراجل ، وقصدوا الملك الكامل ، ونزلوا مقابله ، بينهما خليج من النيل يسمى بحر أشموم ، وهم يرمون بالمنجنيق والجرخ إلى عسكر المسلمين ، وقد تيقنوا هم وكل الناس أنهم يملكون الديار المصرية
وأما الأشرف فإنه سار حتى وصل مصر ، فلما سمع أخوه الكامل بقربه منهم توجه إليه ، فلقيه ، واستبشر هو وسائر المسلمين باجتماعهما ، لعل الله يحدث بذلك نصرا وظفرا .
وأما الملك المعظم ، صاحب دمشق ، فإنه سار أيضا إلى ديار مصر ، وقصد دمياط ظنا منه أن أخويه وعسكريهما قد نازلوها ، وقيل بل أخبر في الطريق أن الفرنج قد توجهوا إلى دمياط ، فسابقهم إليها ليلقاهم من بين أيديهم ، وأخواه من خلفهم ، والله أعلم .
اجتماع الأشرف بالكامل ولما اجتمع الأشرف بالكامل استقر الأمر بينهما على التقدم إلى خليج من النيل يعرف ببحر المحلة ، فتقدموا إليه ، فقاتلوا الفرنج ، وازدادوا قربا ، وتقدمت شواني المسلمين من النيل ، وقاتلوا شواني الفرنج ، فأخذوا منها ثلاث قطع بمن فيها من الرجال ، وما فيها من الأموال والسلاح ، ففرح المسلمون بذلك ، واستبشروا ، وتفاءلوا ، وقويت نفوسهم ، واستطالوا على عدوهم .
هذا يجري والرسل مترددة بينهم قي تقرير قاعدة الصلح ، وبذل المسلمون لهم تسليم البيت المقدس ، وعسقلان ، وطبرية ، وصيدا ، وجبلة ، واللاذقية ، وجميع ما فتحه صلاح الدين من الفرنج بالساحل ، وقد تقدم ذكره ما عدا الكرك ، ليسلموا دمياط ، فلم يرضوا وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن تخريب القدس ليعمروه بها ، فلم يتم بينهم أمر وقالوا : لا بد من الكرك .
فبينما الأمر في هذا ، وهم يمتنعون ، اضطر المسلمون إلى قتالهم ، وكان الفرنج لاعتدادهم بنفوسهم لم يستصحبوا معهم ما يقوتهم عدة أيام ، ظنا منهم أن العساكر الإسلامية لا تقوم لهم ، وأن القرى والسواد جميعه يبقى بأيديهم ، يأخذون منه ما أرادوا من الميرة ، لأمر يريده الله تعالى بهم ، فعبر طائفة من المسلمين إلى الأرض التي عليها الفرنج ، ففجروا النيل ، فركب الماء أكثر تلك الأرض ، ولم يبق للفرنج جهة يسلكون منها غير جهة واحدة فيها ضيق ، فنصب الكامل حينئذ الجسور على النيل ، عند أشموم ، وعبرت العساكر عليها ، فملك الطريق الذي يسلكه الفرنج إن أرادوا العود إلى دمياط ، فلم يبق لهم خلاص .
واتفق في تلك الحال أنه وصل إليهم مركب كبير للفرنج من أعظم المراكب يسمى مرمة ، وحوله عدة حراقات تحميه ، والجميع مملوء من الميرة والسلاح ، وما يحتاجون إليه ، فوقع عليها شواني المسلمين ، وقاتلوهم ، فظفروا بالمرمة وبما معها من الحراقات ، أخذوها ، فلما رأى الفرنج ذلك سقط في أيديهم ، ورأوا أنهم قد ضلوا الصواب بمفارقة دمياط في أرض يجهلونها .
هذا وعساكر المسلمين محيطة بهم يرمونهم بالنشاب ، ويحملون على أطرافهم ، فلما اشتد الأمر على الفرنج أحرقوا خيامهم ، ومجانيقهم ، وأثقالهم ، وأرادوا الزحف إلى المسلمين ومقاتلتهم ، لعلهم يقدرون على العود إلى دمياط ، فرأوا ما أملوه بعيدا ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، لكثرة الوحل والمياه حولهم ، والوجه الذي يقدرون على سلوكه قد ملكه المسلمون .
فلما تيقنوا أنهم قد أحيط بهم من سائر جهاتهم ، وأن ميرتهم قد تعذر عليهم وصولها ، وأن المنايا قد كشرت لهم عن أنيابها ، ذلت نفوسهم ، وتكسرت صلبانهم ، وضل عنهم شيطانهم ، فراسلوا الملك الكامل والأشرف يطلبون الأمان ليسلموا دمياط بغير عوض ، فبينما المراسلات مترددة إذ أقبل جمع كبير ، لهم رهج شديد ، وجلبة عظيمة ، من جهة دمياط ، فظنه المسلمون نجدة أتت للفرنج ، فاستشعروا ، وإذا هو الملك المعظم ، صاحب دمشق ، قد وصل إليهم ، وكان قد جعل طريقه على دمياط ، لما ذكرناه ، فاشتدت ظهور المسلمين ، وازداد الفرنج خذلانا ووهنا ، وتمموا الصلح على تسليم دمياط ، واستقرت القاعدة والأيمان سابع رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة ، وانتقل ملوك الفرنج ، وكنودهم ، وقمامصتهم إلى الملك الكامل والأشرف رهائن على تسليم دمياط : ملك عكا ، ونائب بابا صاحب رومية ، وكند ريش ، وغيرهم ، وعدتهم عشرون ملكا ، وراسلوا قسوسهم ورهبانهم إلى دمياط في التسليم ، فلم يمتنع من بها ، وسلموها إلى المسلمين تاسع رجب المذكور ، وكان يوما مشهودا .
ومن العجب أن المسلمين لما تسلموها وصلت للفرنج نجدة في البحر ، فلو سبقوا المسلمين إليها لامتنعوا من تسليمها ، ولكن سبقهم المسلمون ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ولم يبق بها من أهلها إلا آحاد ، وتفرقوا أيدي سبا ، بعضهم سار عنها باختياره ، وبعضهم مات ، وبعضهم أخذه الفرنج .
ولما دخلها المسلمون رأوها وقد حصنها الفرنج تحصينا عظيما بحيث بقيت لا ترام ، ولا يوصل إليها ، وأعاد الله ، سبحانه وتعالى ، الحق إلى نصابه ، ورده إلى أربابه ، وأعطى المسلمين ظفرا لم يكن في حسابهم ، فإنهم كانت غاية أمانيهم أن يسلموا البلاد التي أخذت منهم بالشام ليعيدوا دمياط ، فرزقهم الله إعادة دمياط ، وبقيت البلاد بأيديهم على حالها ، فالله المحمود المشكور على ما أنعم به على الإسلام والمسلمين من كف عادية هذا العدو ، وكفاهم شر التتر ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى .