وفاة قتادة أمير مكة وملك ابنه الحسن وقتل أمير الحاج
في سنة ثماني عشرة وستمائة، في جمادى الآخرة ، توفي قتادة بن إدريس العلوي ، ثم الحسني ، أمير مكة ، حرسها الله ، بها ، وكان عمره نحو تسعين سنة ، وكانت ولايته قد اتسعت من حدود اليمن إلى مدينة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وله قلعة ينبع بنواحي المدينة ، وكثر عسكره ، واستكثر من المماليك ، وخافه العرب في تلك البلاد خوفا عظيما .
وكان ، في أول ملكه ، لما ملك مكة ، حرسها الله ، حسن السيرة أزال عنها العبيد المفسدين ، وحمى البلاد ، وأحسن إلى الحجاج ، وأكرمهم ، وبقي كذلك مدة ، ثم إنه بعد ذلك أساء السيرة ، وجدد المكوس بمكة ، وفعل أفعالا شنيعة ، ونهب الحاج في بعض السنين كما ذكرناه .
ولما مات ملك بعده ابنه الحسن ، وكان له ابن آخر اسمه راجح ، مقيم في العرب بظاهر مكة ، يفسد ، وينازع أخاه في ملك مكة ، فلما سار حاج العراق كان الأمير عليهم مملوكا من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه أقباش ، وكان حسن السيرة مع الحاج في الطريق ، كثير الحماية ، فقصده راجح بن قتادة ، وبذل له وللخليفة مالا ليساعده على ملك مكة ، فأجابه إلى ذلك ووصلوا إلى مكة ، ونزلوا بالزاهر ، وتقدم إلى مكة مقاتلا لصاحبها حسن .
وكان حسن قد جمع جموعا كثيرة من العرب وغيرها ، فخرج إليه من مكة وقاتله ، وتقدم أمير الحاج من بين يدي عسكره منفردا ، وصعد الجبل إدلالا بنفسه ، وأنه لا يقدم أحد عليه ، فأحاط به أصحاب حسن ، وقتلوه ، وعلقوا رأسه ، فانهزم عسكر أمير المؤمنين ، وأحاط أصحاب حسن بالحاج لينهبوهم ، فأرسل إليهم حسن عمامته أمانا للحجاج ، فعاد أصحابه ولم ينهبوا منهم شيئا ، وسكن الناس ، وأذن لهم حسن في دخول مكة وفعل ما يريدونه من الحج والبيع وغير ذلك ، وأقاموا بمكة عشرة أيام ، وعادوا ، فوصلوا إلى العراق سالمين ، وعظم الأمر على الخليفة ، فوصلت رسل حسن يعتذرون ، ويطلبون العفو عنه ، فأجيب إلى ذلك .
وقيل في موت قتادة : إن ابنه حسنا خنقه فمات ، وسبب ذلك أن قتادة جمع جموعا كثيرة وسار عن مكة يريد المدينة ، فنزل بوادي الفرع وهو مريض ، وسير أخاه على الجيش ومعه ابنه الحسن بن قتادة ، فلما أبعدوا بلغ الحسن أن عمه قال لبعض الجند : إن أخي مريض ، وهو ميت لا محالة وطلب منهم أن يحلفوا له ليكون هو الأمير بعد أخيه قتادة ، فحضر الحسن عند عمه ، واجتمع إليه كثير من الأجناد والمماليك الذين لأبيه ، فقال الحسن لعمه : قد فعلت كذا وكذا فقال : لم أفعل فأمر حسن الحاضرين بقتله ، فلم يفعلوا ، وقالوا : أنت أمير وهذا أمير ، ولا نمد أيدينا إلى أحدكما . فقال له غلامان لقتادة : نحن عبيدك ، فمرنا بما شئت فأمرهما أن يجعلا عمامة عمه في عنقه ، ففعلا ، ثم قتله .
فسمع قتادة الخبر ، فبلغ منه الغيظ كل مبلغ ، وحلف ليقتلن ابنه ، وكان على ما ذكرناه من المرض ، فكتب بعض أصحابه إلى الحسن يعرفه الحال ، ويقول له : ابدأ به قبل أن يقتلك فعاد الحسن إلى مكة ، فلما وصلها قصد دار أبيه في نفر يسير ، فوجد على باب الدار جمعا كثيرا ، فأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ، ففارقوا الدار ، وعادوا إلى مساكنهم ، ودخل الحسن إلى أبيه ، فلما رآه أبوه شتمه ، وبالغ في ذمه وتهديده ، فوثب إليه الحسن فخنقه لوقته ، وخرج إلى الحرم الشريف ، وأحضر الأشراف ، وقال : إن أبي قد اشتد مرضه ، وقد أمركم أن تحلفوا لي أن أكون أنا أميركم . فحلفوا له ثم إنه أظهر تابوتا ودفنه ليظن الناس أنه مات ، وكان قد دفنه سرا .
فلما استقرت الإمارة بمكة له أرسل إلى أخيه الذي بقلعة الينبع على لسان أبيه يستدعيه ، وكتم موت أبيه عنه ، فلما حضر أخوه قتله أيضا ، واستقر أمره ، وثبت قدمه ، وفعل بأمير الحاج ما تقدم ذكره ، فارتكب عظيما : قتل أباه وعمه وأخاه في أيام يسيرة ، لا جرم لم يمهله الله ، سبحانه وتعالى ، نزع ملكه ، وجعله طريدا شريدا خائفا يترقب .
وقيل إن قتادة كان يقول شعرا ، فمن ذلك أنه طلب ليحضر عند أمير الحاج ، كما جرت عادة أمراء مكة ، فامتنع ، فعوتب من بغداد ، فأجاب بأبيات شعر منها :
ولي كف ضرغام أدل ببطشها وأشري بها بين الورى وأبيع تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها
وفي وسطها للمجدين ربيع أأجعلها تحت الرحا ثم أبتغي
خلاصا لها ؟ إني إذا لرقيع ! وما أنا إلا المسك في كل بلدة
يضوع ، وأما عندكم فيضيع