خروج طائفة من قفجاق إلى أذربيجان وما فعلوه بالكرج وما كان منهم
في سنة تسع عشرة وستمائة اجتمع طائفة كثيرة من القفجاق وفارقوا بلادهم لما استولى عليها التتر ، وساروا إلى دربند شروان ، وأرسلوا إلى صاحبه واسمه رشيد ، وقالوا له : إن التتر قد ملكوا بلادنا ، ونهبوا أموالنا ، وقد قصدناك لنقيم في بلادك ، ونحن مماليك لك ، ونفتح البلاد لك ، وتكون أنت سلطاننا فمنعهم من ذلك وخافهم ، فأعادوا الرسالة إليه : إننا نحن نرهن عندك أولادنا ونساءنا على الطاعة والخدمة لك ، والانقياد لحكمك ; فلم يجبهم إلى ما طلبوا ، فسألوه أن يمكنهم ليتزودوا من بلده ، تدخل عشرة عشرة ، فإذا اشتروا ما يحتاجون إليه فارقوا بلاده ، فأجابهم إلى ذلك ، فصاروا يدخلون متفرقين ، ويشترون ما يريدون ، ويخرجون .
ثم إن بعض كبرائهم والمقدمين منهم جاء إلى رشيد وقال : إنني كنت في خدمة السلطان خوارزم شاه ، وأنا مسلم ، والدين يحملني على نصحك ، اعلم أن قفجاق أعداؤك ، ويريدون الغدر بك ، فلا تمكنهم من المقام ببلادك ، فأعطني عسكرا حتى أقاتلهم وأخرجهم من البلاد . ففعل ذلك ، وسلم إليه طائفة من عسكره ، وأعطاهم ما يحتاجون إليه من سلاح وغيره ، فساروا معه ، فأوقعوا بطائفة من قفجاق ، فقتل منهم جماعة ونهب منهم ، فلم يتحرك قفجاق لقتال بل قالوا : نحن مماليك الملك شروان شاه رشيد ، ولولا ذلك لقاتلنا عسكره ، فلما عاد ذلك المقدم القفجاقي ومعه عسكر رشيد سالمين ، فرح بهم
ثم إن قفجاق فارقوا موضعهم ، فساروا ثلاثة أيام ، فقال ذلك القفجاقي لرشيد : أريد عسكرا أتبعهم به وأغنم ما معهم فأمر له من العسكر بما أراد ، فسار يقفو أثر القفجاق ، فأوقع بأواخرهم ، وغنم منهم .
وقصده جمع كثير من قفجاق من الرجال والنساء يبكون ، وقد جزوا شعورهم ، ومعهم تابوت ، وهم محيطون به يبكون حوله ، وقالوا له : إن صديقك فلانا قد مات ، وقد أوصى أن نحمله إليك فتدفنه في أي موضع شئت ، ونكون نحن عندك ، فحمله معه والذين يبكون عليه أيضا ، وعاد إلى شروان شاه رشيد ، وأعلمه أن الميت صديق له وقد حمله معه ، وقد طلب أهله أن يكونوا عنده في خدمته ، فأمر أن يدخلوا البلد ، وأنزلهم فيه .
فكان أولئك الجماعة يسيرون مع ذلك المقدم ، ويركبون بركوبه ، ويصعدون معه إلى القلعة التي لرشيد ، ويقعدون عنده ، ويشربون معه هم ونساؤهم ، فأحب رشيد امرأة ذلك الرجل الذي قيل له : إنه ميت ، ولم يكن مات ، وإنما فعلوا هكذا مكيدة حتى دخلوا البلد ، والذي أظهروا موته معهم في المجلس ، ولا يعرفه رشيد ، وهو من أكبر مقدمي قفجاق ، فبقوا كذلك عدة أيام ، فكل يوم يجيء جماعة من قفجاق متفرقين ، فاجتمع بالقلعة منهم جماعة ، وأردوا قبض رشيد وملك بلاده ، ففطن لذلك ، فخرج عن القلعة من باب السر ، وهرب ومضى إلى شروان . وملك قفجاق وقالوا لأهل البلد وأعادوا باقي أصحابهم إليهم وأخذوا السلاح الذي في البلد جميعه واستولوا على الأموال التي كانت لرشيد في القلعة ، ورحلوا عن القلعة ، وقصدوا قبلة ، وهي للكرج ، فنزلوا عليها وحصروها .
فلما سمع رشيد بمفارقتهم القلعة رجع إليها وملكها ، وقتل من بها من قفجاق ، ولم يشعر القفجاق الذين عند قبلة بذلك ، فأرسلوا طائفة منهم إلى القلعة ، فقتلهم رشيد أيضا ، فبلغ الخبر إلى القفجاق ، فعادوا إلى دربند ، فلم يكن لهم في القلعة طمع .
وكان صاحب قبلة ، لما كانوا يحصرونه ، قد أرسل إليهم ، وقال لهم : أنا أرسل إلى ملك الكرج حتى يرسل إليكم الخلع والأموال ، ونجتمع نحن وأنتم ونملك البلاد ، فكفوا عن نهب ولايته أياما ، ثم إنهم مدوا أيديهم بالنهب والفساد ، ونهبوا بلاد قبلة جميعها ، وساروا إلى قرب كنجة من بلاد أران ، وهي للمسلمين ، فنزلوا هناك ، فأرسل إليهم الأمير بكنجة ، وهو مملوك لأوزبك صاحب أذربيجان ، اسمه كوشخرة ، عسكرا فمنعهم من الوصول إلى بلاده ، وسير رسولا إليهم يقول لهم : غدرتم بصاحب شروان وأخذتم قلعته ، وغدرتم بصاحب قبلة ونهبتم بلاده ، فما يثق بكم أحد ، فأجابوا : إننا ما جئنا إلا قصدا لخدمة سلطانكم ، فمنعنا شروان شاه عنكم ، فلهذا قصدنا بلاده ، وأخذنا قلعته ، ثم تركناها من غير خوف ، وأما صاحب قبلة فهو عدوكم وعدونا ، ولو أردنا أن نكون عند الكرج لما كنا جعلنا طريقنا على دربند شروان ، فإنه أصعب وأشق وأبعد ، وكنا جئنا إلى بلادهم على عادتنا ، ونحن نوجه الرهائن إليكم .
فلما سمع كوشخرة هذا سار إليهم ، فسمع به قفجاق فركب أميران منهم ، هما مقدماهم ، في نفر يسير وجاءوا إليه ولقوه وخدموه ، وقالوا له : قد أتيناك جريدة في قلة من العدد لتعلم أننا ما قصدنا إلا الوفاء والخدمة لسلطانكم ، فأمرهم كوشخرة بالرحيل والنزول عند كنجة ، وتزوج ابنة أحدهم وأرسل إلى صاحبه أوزبك يعرفه حالهم ، فأمر لهم بالخلع والنزول بجبل كيلكون ، ففعلوا ذلك .
وخافهم الكرج ، فجمعوا لهم ليكبسوهم ، فوصل الخبر بذلك إلى كوشخرة أمير كنجة ، فأخبر قفجاق ، وأمرهم بالعود والنزول عند كنجة ، فعادوا ونزلوا عندها ، وسار أمير من أمراء قفجاق في جمع منهم إلى الكرج ، فكبسهم ، وقتل كثيرا منهم ، وهزمهم ، وغنم ما معهم ، وأكثر القتل فيهم والأسر منهم ، وتمت الهزيمة عليهم ، ورجع قفجاق إلى جبل كيلكون ، فنزلوا فيه كما كانوا .
فلما نزلوا أراد الأمير الآخر من أمراء قفجاق أن يؤثر في الكرج مثل ما فعل صاحبه ، فسمع كوشخرة ، فأرسل إليه ينهاه عن الحركة إلى أن يكشف له خبر الكرج ، فلم يقف ، فسار إلى بلادهم في طائفته ، ونهب وخرب وأخذ الغنائم ، فسار الكرج في طريق يعرفونها وسبقوه ، فلما وصل إليهم قاتلوه ، وحملوا عليه وعلى من معه على غرة وغفلة ، فوضعوا السيف فيهم ، وأكثروا القتل فيهم ، واستنقذوا الغنائم منه ، فعاد هو ومن معه على أقبح حالة ، وقصدوا برذعة .
وأرسلوا إلى كوشخرة يطلبون أن يحضر عندهم هو بنفسه ، وعسكره ليقصدوا الكرج فيأخذوا بثأرهم منهم ، فلم يفعل ، وأخافهم ، وقال : أنتم خالفتموني ، وعملتم برأيكم ، فلا أنجدكم بفارس واحد ; فأرسلوا يطلبون الرهائن الذين لهم ، فلم يعطهم ، فاجتمعوا وأخذوا كثيرا من المسلمين عوضا من الرهائن ، فثار بهم المسلمون من أهل البلاد ، وقاتلوهم ، فقتلوا منهم جماعة كثيرة ، فخافوا ، وساروا نحو شروان ، وجازوا إلى بلد اللكز ، فطمع الناس فيهم ; المسلمون والكرج واللكز وغيرهم ، فأفنوهم قتلا ونهبا وأسرا وسبيا ، بحيث إن المملوك منهم كان يباع في دربند شروان بالثمن البخس .