وفاة الخليفة الناصر لدين الله .

في سنة اثنتين وعشرين وستمائة آخر ليلة من شهر رمضان ، توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي عبد الله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي العباس محمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد محمد بن جعفر المتوكل على الله ، ولم يكن الموفق خليفة ، وإنما كان ولي عهد أخيه المعتمد على الله ، فمات قبل المعتمد ، فصار ولده المعتضد بالله ولي عهد المعتمد على الله .

وكان المتوكل على الله بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، رضي الله عنهم .


نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن فلق الصباح عمودا

.

فكان في آبائه أربعة عشر خليفة ، وهم كل من له لقب ، والباقون غير خلفاء ، وكان فيهم من ولي العهد محمد بن القائم ، والموفق بن المتوكل ، وأما باقي الخلفاء من بني العباس فلم يكونوا من آبائه ، فكان السفاح أبو العباس عبد الله أخا المنصور ولي قبله ، وكان موسى الهادي أخا الرشيد ولي قبله ، وكان محمد الأمين وعبد الله المأمون ابنا الرشيد أخوي المعتصم وليا قبله ، وكان محمد المنتصر بن المتوكل ولي بعده .

ثم ولي بعد المنتصر بالله المستعين بالله أبو العباس أحمد بن محمد بن المعتصم ، وولي بعد المستعين المعتز بالله محمد ، وقيل طلحة ، وهو ابن المتوكل ، وولي بعد المعتز المهتدي بالله محمد بن الواثق ، ثم ولي بعده المعتمد على الله أحمد بن المتوكل ، فالمنتصر والمعتز والمعتمد إخوة الموفق ، والمهتدي ابن عمه ، والموفق من أجداد الناصر لدين الله .

ثم ولي المعتضد بعد المعتمد ، وولي بعد المعتضد ابنه أبو محمد علي المكتفي بالله ، وهو أخو المقتدر بالله ، وولي بعد المقتدر بالله أخوه القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد ، وولي بعد القاهر الراضي بالله أبو العباس محمد بن المقتدر .

ثم ولي بعده المتقي لله أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر ، ثم ولي بعده المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله [ بن ] المكتفي بالله علي بن المعتضد ، ثم ولي بعده المطيع لله أبو بكر عبد الكريم ، فالقاهر والراضي والمتقي والمطيع بنوه ، والمستكفي ابن أخيه المكتفي .

[ ثم ولي ] الطائع لله بن المقتدر ، ثم ولي بعد الطائع القادر بالله ، [ وهو ] من أجداد الناصر لدين الله ، ثم ولي بعده المستظهر بالله ، [ ثم ولي بعده ابنه المسترشد بالله أبو منصور ، وولي بعد المسترشد بالله ] ابنه الراشد أبو جعفر ، فالمسترشد أخو المتقي ، والراشد بالله ابن أخيه ، فجمع من ولي الخلافة ممن ليس في سياق نسب الناصر تسعة عشر خليفة .

وكانت أم الناصر أم ولد ، تركية ، اسمها زمرد ، وكانت خلافته ستا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما ، وكان عمره نحو سبعين سنة تقريبا ، فلم يل الخلافة أطول مدة منه إلا ما قيل عن المستنصر بالله العلوي صاحب مصر ، فإنه ولي ستين سنة ، ولا اعتبار به ، فإنه ولي وله سبع سنين ، فلا تصح ولايته .

وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلا عن الحركة بالكلية ، وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصارا ضعيفا ، وفي آخر الأمر أصابه دوسنطاريا عشرين يوما ومات .

ووزر له عدة وزراء ، وقد تقدم ذكرهم ، ولم يطلق في طول مرضه شيئا كان أحدثه من الرسوم الجائرة ، وكان قبيح السيرة ، في رعيته ظالما ، فخرب في أيامه العراق ، وتفرق أهله في البلاد ، وأخذ أملاكهم وأموالهم ، وكان يفعل الشيء وضده ، فمن ذلك أنه عمل دور الضيافة ببغداد ; ليفطر الناس عليها في رمضان ، فبقيت مدة ، ثم قطع ذلك ، ثم عمل دور الضيافة للحجاج ، فبقيت مدة ، ثم بطلها ، وأطلق بعض المكوس التي جددها ببغداد خاصة ، ثم أعادها . وجعل جل همه في رمي البندق ، والطيور المناسيب ، وسراويلات الفتوة ، فبطل الفتوة في البلاد جميعها ، إلا من يلبس منه سراويل يدعى إليه ، ولبس كثير من الملوك منه سراويلات الفتوة .

وكذلك أيضا منع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره ، ومنع الرمي بالبندق إلا من ينتمي إليه ، فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك إلا إنسانا واحدا يقال له ابن السفت من بغداد ، فإنه هرب من العراق ولحق بالشام ، فأرسل إليه يرغبه في المال الجزيل ليرمي عنه ، وينسب في الرمي إليه ، فلم يفعل ، فبلغني أن بعض أصدقائه أنكر عليه الامتناع من أخذ المال ، فقال : يكفيني فخرا أنه ليس في الدنيا أحد إلا يرمي للخليفة ، إلا أنا .

فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعظم الأمور ، وكان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحا من أنه هو الذي أطمع التتر في البلاد ، وراسلهم في ذلك ، فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم . قال الذهبي : ولم تزل مدة حياته في عز وجلالة وقمع للأعداء، واستظهار على الملوك، ولم يجد ضيما، ولا خرج عليه خارجي إلا قمعه، ولا مخالف إلا دمغه، وكل من أضمر له سوءا... رماه الله بالخذلان.

وكان مع سعادة جده شديد الاهتمام بمصالح الملك، لا يخفى عليه شيء من أحوال رعيته كبارهم وصغارهم، وأصحاب أخباره في أقطار البلاد يوصلون إليه أحوال الملوك الظاهرة والباطنة.

وكانت له حيل لطيفة، ومكائد غامضة، وخدع لا يفطن لها أحد، يوقع الصداقة بين ملوك متعادين وهم لا يشعرون، ويوقع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون. [قصة مازندار مع الخليفة الناصر]

ولما دخل رسول صاحب مازندران بغداد ... كانت تأتيه ورقة كل صباح بما عمل في الليل، فصار يبالغ في التكتم والورقة تأتيه ، فاختلى ليلة بامرأة دخلت من باب السر، فصبحته الورقة بذلك; وفيها: كان عليكم دواج فيه صورة الأفيلة، فتحير، وخرج من بغداد وهو لا يشك أن الخليفة يعلم الغيب; لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في بطن الحامل، وما وراء الجدار.

وأتى رسول خوارزم شاه برسالة مخفية وكتاب مختوم، فقيل له: ارجع، فقد عرفنا ما جئت به، فرجع وهو يظن أنهم يعلمون الغيب.

قال الذهبي : (قيل: إن الناصر كان مخدوما من الجن).

ولما ظهر خوارزم شاه بخراسان وما وراء النهر، وتجبر وطغى، واستعبد الملوك الكبار، وأباد أمما كثيرة، وقطع خطبة بني العباس من بلاده، وقصد بغداد، فوصل إلى همذان، فوقع عليهم ثلج عظيم عشرين يوما، فغطاهم في غير أوانه، فقال له بعض خواصه: إن ذلك غضب من الله حيث قصدت بيت النبوة.

وبلغه: أن أمم الترك قد تألبوا عليه، وطمعوا في البلاد; لبعده عنها، فكان ذلك سبب رجوعه، وكفي الناصر شره بلا قتال. [كرم الخليفة الناصر]

وكان الناصر إذا أطعم.. أشبع، وإذا ضرب.. أوجع، وله مواطن يعطي فيها عطاء من لا يخاف الفقر.

ووصل رجل معه ببغاء تقرأ: { قل هو الله أحد } تحفة للخليفة من الهند، فأصبحت ميتة، وأصبح حيران، فجاءه فراش يطلب منه الببغاء، فبكى وقال: الليلة ماتت، فقال: قد عرفنا هاتها ميتة، وقال: كم كان ظنك أن يعطيك الخليفة؟ قال: خمسمائة دينار.

فقال: هذه خمسمائة دينار، خذها، فقد أرسلها إليك الخليفة; فإنه علم بحالك منذ خرجت من الهند. [قصة فرس الفقيه وما جرى معه]

وكان صدر جهان قد صار إلى بغداد ومعه جمع من الفقهاء، وواحد منهم لما خرج من داره من سمرقند على فرس جميلة، فقال له أهله: لو تركتها عندنا؛ لئلا تؤخذ منك في بغداد؟ !

فقال: الخليفة لا يقدر أن يأخذها مني، فأمر بعض الوقادين: أنه حين يدخل بغداد يضربه، ويأخذها منه، ويهرب في الزحمة، ففعل.

فجاء الفقيه يستغيث فلا يغاث، فلما رجعوا من الحج... خلع على صدر جهان وأصحابه، وخلع على ذلك الفقيه، وقدمت له فرسه وعليها سرج من ذهب وطوق، وقيل له: لم يأخذ فرسك الخليفة، إنما أخذها أتوني، فخر مغشيا عليه، وأسجل بكرامتهم. [هيبة الناصر في قلوب الرعية]

وقال الموفق عبد اللطيف : (كان الناصر قد ملأ القلوب هيبة وخيفة، فكان يرهبه أهل الهند ومصر كما يرهبه أهل بغداد، فأحيا هيبة الخلافة، وكانت قد ماتت بموت المعتصم، ثم ماتت بموته.

وكان الملوك والأكابر بمصر والشام إذا جرى ذكره في خلواتهم خفضوا أصواتهم هيبة وإجلالا، وورد بغداد تاجر ومعه متاع دمياط المذهب، فسألوه عنه فأنكر، فأعطي علامات فيه; من عدده وألوانه وأصنافه، فازداد إنكاره، فقيل له: من العلامات: أنك نقمت على مملوكك التركي فلان، فأخذته إلى سيف بحر دمياط خلوة، وقتلته ودفنته هناك ولم يشعر بذلك أحد!!)

وقال ابن النجار : (دانت السلاطين للناصر، ودخل تحت طاعته من كان من المخالفين، وذلت له العتاة والطغاة، وانقهرت بسيفه الجبابرة، واندحض أعداؤه، وكثر أنصاره، وفتح البلاد العديدة، وملك من الممالك ما لم يملكه أحد ممن تقدمه من الخلفاء والملوك، وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين، وكان أسد بني العباس، تتصدع لهيبته الجبال، وكان حسن الخلق، لطيف الخلق، كامل الظرف، فصيح اللسان، بليغ البيان، له التوقيعات المسددة، والكلمات المؤيدة، كانت أيامه غرة في وجه الدهر، ودرة في تاج الفخر).

وقال ابن واصل : (كان الناصر شهما شجاعا، ذا فكرة صائبة وعقل رصين، ومكر ودهاء، وله أصحاب أخبار في العراق وسائر الأطراف، يطالعونه بجزئيات الأمور، حتى ذكر أن رجلا ببغداد عمل دعوة وغسل يده قبل أضيافه، فطالع صاحب الخبر الناصر بذلك، فكتب في جواب ذلك: سوء أدب من صاحب الدار، وفضول من كاتب المطالعة).

قال: (وكان مع ذلك رديء السيرة في الرعية، مائلا إلى الظلم والعسف، ففارق أهل البلاد بلادهم، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل أفعالا متضادة، وكان يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية، بخلاف آبائه، حتى إن ابن الجوزي سئل بحضرته: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أفضلهم بعده: من كانت ابنته تحته، ولم يقدر أن يصرح بتفضيل أبي بكر).

وقال الموفق عبد اللطيف : (وفي وسط ولايته اشتغل برواية الحديث، واستناب نوابا في الإجازة عنه والتسميع، وأجرى عليهم جرايات، وكتب للملوك والعلماء إجازات، وجمع كتابا وسبعين حديثا، ووصل إلى حلب وسمعه الناس).

قال الذهبي : (أجاز الناصر لجماعة من الأعيان فحدثوا عنه; منهم: ابن سكينة، وابن الأخضر، وابن النجار، وابن الدامغاني، وآخرون).

قال أبو المظفر سبط الجوزي وغيره: (قل بصر الناصر في آخر عمره، وقيل: ذهب جله، ولم يشعر بذلك أحد من الرعية حتى الوزير وأهل الدار، وكان له جارية قد علمها الخط بنفسه، فكانت تكتب مثل خطه فتكتب على التواقيع).

وقال شمس الدين الجزري: (كان الماء الذي يشربه الناصر تأتي به الدواب من فوق بغداد بسبعة فراسخ، ويغلى سبع غلوات كل يوم غلوة، ثم يحبس في الأوعية سبعة أيام، ثم يشرب منه، وبعد هذا ما مات... حتى سقي المرقد مرات، وشق ذكره، وأخرج منه الحصى، ومات منه يوم الأحد، سلخ رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة).

ومن لطائفه: أن خادما له اسمه يمن كتب إليه ورقة فيها عتب، فوقع فيها:


بمن يمن يمن     ثمن يمن ثمن

ولما تولى الخلافة.. بعث إلى السلطان صلاح الدين بالخلع والتقليد، وكتب إليه السلطان كتابا يقول فيه: (والخادم -ولله الحمد- يعدد سوابق في الإسلام والدولة العباسية لا يعدها أولية أبي مسلم; لأنه والى ثم وارى، ولا آخرية طغرلبك; لأنه نصر ثم حجر، والخادم خلع من كان ينازع الخلافة رداءها، وأساغ الغصة التي ذخر الله للإساغة في سيفه ماءها، فرجل الأسماء الكاذبة الراكبة على المنابر، وأعز بتأييد إبراهيمي، فكسر الأصنام الباطنة بسيفه الظاهر). وكان الذي ولي غسله محيي الدين بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي ، وصلي عليه ودفن في دار الخلافة ، ثم نقل إلى الترب من الرصافة في ثاني ذي الحجة من هذه السنة ، وكان يوما مشهودا .

التالي السابق


الخدمات العلمية