ذكر خلافة ابنه المستنصر بالله .

لما توفي الظاهر بأمر الله ، بويع بالخلافة ابنه الأكبر أبو جعفر المنصور ، ولقب المستنصر بالله ، وسلك في الخير والإحسان إلى الناس سيرة أبيه ، رضي الله عنه . وأمر فنودي ببغداد بإفاضة العدل ، وإن من كان له حاجة ، أو مظلمة يطالع بها ، تقضى حاجته ، وتكشف مظلمته .

فلما كان أول جمعة أتت على خلافته ، أراد أن يصلي الجمعة في المقصورة التي كان يصلي فيها الخلفاء ، فقيل له إن المطبق الذي يسلك فيه إليها خراب لا يمكن سلوكه ، فركب فرسا وسار إلى الجامع جامع القصر ، ظاهرا يراه الناس بقميص أبيض وعمامة بيضاء ، بسكاكين حرير ، ولم يترك أحدا يمشي معه بل أمر كل من أراد أن يمشي معه من أصحابه بالصلاة في الموضع الذي كان يصلي فيه ، وسار هو ومعه خادمان وركابدار لا غير ، وكذلك الجمعة الثانية حتى أصلح له المطبق .

وكان السعر قد تحرك بعد وفاة الظاهر بأمر الله - رضي الله عنه - فبلغت الكارة ثمانية عشر قيراطا ، فأمر أن تباع الغلات التي له كل كارة بثلاث عشر قيراطا ، فرخصت الأسعار واستقامت الأمور . كان من أحسن الناس شكلا وأبهاهم منظرا ، وهو كما قال القائل :


كأن الثريا علقت في جبينه وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر

وفي نسبه الشريف خمسة عشر خليفة ، منهم خمسة من آبائه ، ولوا نسقا وتلقى هو الخلافة عنهم وراثة كابرا عن كابر ، وهذا شيء لم يتفق لأحد من الخلفاء قبله ، وسار في الناس كسيرة أبيه الظاهر في الجود وحسن السيرة والإحسان إلى الرعية . وبنى المدرسة الكبيرة المستنصرية التي لم تبن مدرسة في الدنيا مثلها ، وسيأتي بيان ذلك في موضعه ، إن شاء الله تعالى ، واستمر أرباب الولايات الذين كانوا في عهد أبيه على ما كانوا عليه ، ولما كان يوم الجمعة المقبلة خطب للإمام المستنصر بالله على المنابر ، ونثر الذهب والفضة عند ذكر اسمه ، وكان يوما مشهودا ، وأنشد الشعراء المدائح والمراثي ، وأطلقت لهم الخلع والجوائز .

وقدم رسول من صاحب الموصل يوم غرة شعبان مع الوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن الأثير ، فيها التهنئة والتعزية بعبارة فصيحة بليغة .

ثم إن المستنصر بالله كان يواظب على حضور الجمعة راكبا ظاهرا للناس ، وإنما معه خادمان ، وركب دار ، وخرج مرة وهو راكب ، فسمع ضجة عظيمة ، فقال : ما هذا؟ فقيل له : التأذين . فترجل عن فرسه ، وسعى ماشيا ، ثم صار يدمن المشي إلى الجمعة رغبة في التواضع والخشوع ، ويجلس قريبا من الإمام ، ويستمع الخطبة ، ثم أصلح له المطبق ، فكان يمشي منه إلى الجمعة ، وركب في الثاني والعشرين من شعبان ركوبا ظاهرا للناس عامة ، ولما كانت أول ليلة من رمضان تصدق بصدقات كثيرة من الدقيق والغنم والنفقات على العلماء والفقراء والمحاويج ، إعانة لهم على الصيام ، وتقوية لهم على القيام .

وفي يوم السابع والعشرين من رمضان نقل تابوت أبيه الظاهر من دار الخلافة إلى الترب من الرصافة ، وكان يوما مشهودا ، وبعث الخليفة المستنصر يوم العيد صدقات كثيرة ، وإنعاما جزيلا إلى الفقهاء والصوفية وأئمة المساجد ، على يدي محيي الدين بن الجوزي . بناء المدرسة المستنصرية

وقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري : (كان المستنصر راغبا في فعل الخير، مجتهدا في تكثير البر، وله في ذلك آثار جميلة، وأنشأ المدرسة المستنصرية، ورتب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم).

وقال ابن واصل : (بنى المستنصر على دجلة من الجانب الشرقي مدرسة ما بني على وجه الأرض أحسن منها، ولا أكثر وقوفا، وهي بأربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، وعمل فيها بيمارستانا، ورتب فيها مطبخا للفقهاء، ومزملة للماء البارد، ورتب لبيوت الفقهاء الحصر والبسط والزيت والورق والحبر وغير ذلك، وللفقيه بعد ذلك في الشهر دينار، ورتب لهم حماما، وهو أمر لم يسبق إلى مثله، واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه ولا جده.

وكان ذا همة عالية وشجاعة وإقدام عظيم، قصدت التتار البلاد فلقيهم عسكره فهزموا التتار هزيمة عظيمة، وكان له أخ يقال له: الخفاجي، فيه شهامة زائدة، وكان يقول: لئن وليت.. لأعبرن بالعساكر نهر جيحون، وآخذ البلاد من أيدي التتار، وأستأصلهم، فلما مات المستنصر.. لم ير الدويدار ولا الشرابي تقليد الخفاجي; خوفا منه، وأقاما ابنه أحمد; للينه وضعف رأيه ليكون لهما الأمر; ليقضي الله أمرا كان مفعولا من هلاك المسلمين في مدته، وتغلب التتار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

التالي السابق


الخدمات العلمية