وقد كان الملك الظاهر شهما شجاعا ، عالي الهمة ، بعيد الغور ، مقداما جسورا ، معتنيا بأمر السلطنة ، يشفق على الإسلام ، متحليا بالملك ، له قصد صالح في نصرة الإسلام وأهله ، وإقامة شعار الملك ، واستمرت أيامه من يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين إلى هذا الحين ، ففتح في هذه المدة
فتوحات كثيرة : قيسارية وأرسوف ويافا والشقيف وأنطاكية وبغراس وطبرية والقصير وحصن الأكراد وحصن عكار والقرين وصافيتا وغير ذلك من الحصون المنيعة التي كانت بأيدي الفرنج ، ولم يدع مع الإسماعيلية شيئا من الحصون ، وناصف الفرنج على المرقب وبانياس وبلاد أنطرطوس ، وسائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون ، وولى في نصيبه مما ناصفهم عليه النواب والعمال ، وفتح قيسارية من بلاد الروم ، وأوقع بالروم والمغول على البلستين بأسا لم يسمع بمثله من دهور متطاولة ، واستعاد من صاحب سيس بلادا كثيرة ، وجاس خلال ديارهم وحصونهم ، واسترد من أيدي المتغلبين من المسلمين بعلبك وبصرى وصرخد وحمص وعجلون والصلت وتدمر والرحبة وتل باشر وغيرها ، والكرك والشوبك ، وفتح بلاد النوبة بكمالها من بلاد السودان ، وانتزع بلادا من التتار كثيرة منها شيزر والبيرة ، واتسعت مملكته من الفرات إلى أقصى بلاد النوبة ، وعمر شيئا كثيرا من الحصون والمعاقل والجسور على الأنهار الكبار ، وبنى دار الذهب بقلعة الجبل وبنى قبة على اثني عشر عمودا ملونة مذهبة ، وصور فيها صور خاصكيته وأشكالهم ، وحفر أنهارا كثيرة وخلجانات ببلاد مصر ، منها نهر السردوس ، وبنى جوامع كثيرة ومساجد عديدة ، وجدد بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احترق ، ووضع الدرابزينات حول الحجرة الشريفة ، وعمل فيه منبرا وسقفه بالذهب ، وجدد المارستان بالمدينة ، وجدد قبر الخليل عليه السلام ، وزاد في زاويته وما يصرف إلى المقيمين ، وبنى على المكان المنسوب إلى قبر موسى عليه السلام قبة قبلي أريحا ، وجدد بالقدس أشياء حسنة ، من ذلك قبة السلسلة ، ورمم سقف الصخرة ، وغيرها وبنى بالقدس خانا هائلا بماملا ، ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين من مصر ، وعمل فيه طاحونا وفرنا وبستانا ، وجعل للواردين إليه أشياء تصرف إليهم في نفقة وإصلاح أمتعتهم ، رحمه الله تعالى . وبنى على قبر أبي عبيدة بالقرب من عمتا مشهدا ، ووقف عليه أشياء للواردين إليه ، وعمر جسر دامية ، وجدد قبر جعفر الطيار بناحية الكرك ، ووقف على الزائرين له شيئا كثيرا ، وجدد قلعة صفد وجامعها ، وجدد جامع الرملة ، وغيرها في كثير من البلاد التي كانت الفرنج قد أخذتها وخربت جوامعها ومساجدها ، وبنى بحلب دارا هائلة ، وبدمشق القصر الأبلق والمدرسة الظاهرية وغيرها ، وضرب الدراهم والدنانير الجيدة الخالصة على النصح والمعاملة الجيدة الجارية بين الناس ، فرحمه الله .
وله من الآثار الحسنة والأماكن ما لم يبن في زمن الخلفاء وملوك بني أيوب ، مع اشتغاله بالجهاد في سبيل الله ، واستخدم من الجيوش شيئا كثيرا ، ورد إليه نحو من ثلاثة آلاف من المغول فأقطعهم وأمر كثيرا منهم ، وكان مقتصدا في ملبسه ومطعمه ، وكذلك جيشه ، وهو الذي أنشأ الدولة العباسية بعد دثورها ، وبقي الناس بلا خليفة نحوا من ثلاث سنين ، وهو الذي أقام من كل مذهب قاضيا مستقلا قاضي قضاة .
وكان - رحمه الله - متيقظا شهما شجاعا ، لا يفتر عن الأعداء ليلا ولا نهارا ، بل هو مناجز لأعداء الإسلام وأهله ، ولم شعثه واجتماع شمله .
وبالجملة
أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عونا ونصرا للإسلام وأهله ، وشجا في حلوق المارقين من الفرنج والتتار والمشركين . وأبطل الخمور ، ونفى الفساق من البلاد ، وكان لا يرى شيئا من الفساد والمفاسد إلا سعى في إزالته بجهده وطاقته . وقد ذكرنا في سيرته ما أرشد إلى حسن طويته وسريرته ، وقد جمع له كاتبه ابن عبد الظاهر سيرة مطولة ، وكذلك ابن شداد أيضا .
وقد ترك من الأولاد عشرة; ثلاثة ذكور وسبعة إناث ، ومات وعمره ما بين الخمسين إلى الستين ، وله أوقاف وصلات وصدقات ، تقبل الله منه الحسنات ، وتجاوز له عن السيئات . والله سبحانه أعلم .