استهلت سنة سبع وستين وسبعمائة وسلطان البلاد المصرية ، والشامية ، والحرمين الشريفين ، وما يتبع ذلك من الأقاليم الملك الأشرف بن الحسين ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون ، وعمره عشر سنين فما فوقها ، وأتابك العساكر ومدبر ممالكه الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي ، وقاضي قضاة الشافعية بمصر بهاء الدين أبو البقاء السبكي ، وبقية القضاة هم المذكورون في السنة التي قبلها ، ونائب دمشق الأمير سيف الدين منكلي بغا ، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنفي ، فإنه الشيخ جمال الدين بن السراج شيخ الحنفية ، والخطابة بيد قاضي القضاة تاج الدين الشافعي ، وكاتب السر وشيخ الشيوخ القاضي فتح الدين بن الشهيد ، ووكيل بيت المال الشيخ جمال الدين بن الرهاوي . ودخل المحمل السلطاني يوم الجمعة بعد العصر قريب الغروب ، ولم يشعر بذلك أكثر أهل البلد ، وذلك لغيبة النائب في الرحبة مما يلي ناحية الفرات; ليكون كالرد للتجريدة التي تعينت لتخريب الكنيسات التي هي إقطاع حيار بن مهنا من أرض السلطان أويس ملك العراق . وفاة الشيخ برهان الدين إبراهيم ابن الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية وفي يوم الجمعة سلخ هذا الشهر توفي الشيخ برهان الدين إبراهيم ابن الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية ببستانه بالمزة ، ونقل إلى عند والده بمقابر باب الصغير ، فصلي عليه بعد صلاة العصر بجامع جراح ، وحضر جنازته القضاة ، والأعيان ، وخلق من التجار والعامة ، وكانت جنازته حافلة ، وقد بلغ من العمر ثمان وأربعين سنة ، وكان بارعا فاضلا في النحو ، والفقه ، وفنون أخر على طريقة والده ، رحمهما الله تعالى ، وكان مدرسا بالصدرية ، والتدمرية ، وله تصدير بالجامع ، وخطابة بجامع ابن خليخان ، وترك مالا جزيلا يقارب المائة ألف درهم .

ثم دخل شهر صفر وأوله الجمعة ، أخبرني بعض علماء السير أنه اجتمع في هذا اليوم - مستهل هذا الشهر - الكواكب السبعة سوى المريخ في برج العقرب ، ولم يتفق مثل هذا من سنين متطاولة ، فأما المريخ فإنه كان قد سبق إلى برج القوس .

وفي أول شهر ربيع الأول كان سفر قاضي القضاة تاج الدين السبكي الشافعي إلى القاهرة . وفي يوم الأربعاء خامس ربيع الأول اجتمعت بنائب السلطنة بدار السعادة ، وسألته عن جواب المطالعة ، فذكر لي أنه جاء المرسوم الشريف السلطاني بعمل الشواني والمراكب; لغزو قبرس ، وقتال الفرنج ، ولله الحمد والمنة ، وأمر نائب السلطنة بتجهيز القطاعين ، والنشارين من دمشق إلى الغابة التي بالقرب من بيروت ، وأن يشرع في عمل الشواني . وفي آخر يوم من هذا الشهر - وهو يوم الجمعة - فتحت دار القرآن التي وقفها الشريف التفتازاني إلى جانب حمام الكاس شمالي المدرسة البادرائية ، وعمل فيها وظيفة حديث ، وحضر عند واقفها يومية قاضي القضاة تاج الدين السبكي . وفاة المعلم داود وفي مستهل ربيع الآخر كانت وفاة المعلم داود الذي كان مباشرا لنظارة الجيش ، وأضيف إليه نظر الدواوين إلى آخر وقت فاجتمع له هاتان الوظيفتان ، ولم يجتمعا لأحد قبله كما في علمي ، وكان من أخبر الناس بنظر الجيش ، وأعلمهم بأسماء رجاله ومواضع الإقطاعات ، وقد كان والده نائبا لنظار الجيوش ، وكان يهوديا قرائيا ، فأسلم ولده هذا قبل وفاة نفسه بسنوات عشر أو نحوها ، وقد كان ظاهره جيدا ، والله أعلم بسره وسريرته ، وقد تمرض قبل وفاته بشهر أو نحوه ، حتى كانت وفاته في هذا اليوم ، فصلي عليه بالجامع الأموي تجاه النسر بعد العصر ، ثم حمل إلى تربة له أعدها في بستانه بجوبر ، وله من العمر قريب الخمسين .

المرسوم السلطاني بالرد على نساء النصارى وفي أوائل هذا الشهر ورد المرسوم الشريف السلطاني بالرد على نساء النصارى ما كان أخذ منهن مع الجباية التي كان تقدم أخذها منهن ، وإن كان الجميع ظلما ، ولكن الأخذ من النساء أفحش وأبلغ في الظلم ، والله أعلم ، وفي يوم الاثنين الخامس عشر منه أمر نائب السلطنة - أعزه الله - بكبس بساتين أهل الذمة ، فوجد فيها من الخمر المعتصر من الخوابي والحباب ، فأريقت عن آخرها - ولله الحمد والمنة - بحيث جرت في الأزقة والطرقات ، وفاض نهر ثورا من ذلك ، وأمر بمصادرة أهل الذمة الذين وجد عندهم ذلك بمال جزيل وهم تحت الجباية ، وبعد أيام نودي في البلد بأن نساء أهل الذمة لا تدخل الحمامات مع المسلمات ، بل تدخل حمامات تختص بهن ، ومن دخل من أهل الذمة الرجال مع الرجال المسلمين يكون في رقاب الكفار علامات يعرفون بها من أجراس ، وخواتيم ، ونحو ذلك ، وأمر نساء أهل الذمة بأن تلبس المرأة خفيها مخالفين في اللون بأن يكون أحدهما أبيض ، والآخر أصفر أو نحو ذلك .

ولما كان يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر - أعني : ربيعا الآخر - طلب القضاة الثلاثة وجماعة من المفتين; فمن ناحية الشافعي نائباه ، وهما القاضي شمس الدين الغزي ، والقاضي بدر الدين بن وهيبة ، والشيخ جمال الدين ابن قاضي الزبداني ، والمصنف الشيخ عماد الدين بن كثير ، والشيخ بدر الدين حسن الزرعي ، والشيخ تقي الدين الفارقي ، ومن الجانب الآخر قاضيا القضاة جمال الدين المالكي والحنبلي ، والشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي ، والشيخ جمال الدين بن الشريشي ، والشيخ عز الدين بن حمزة ابن شيخ السلامية الحنبلي ، وعماد الدين الأخنائي ، فاجتمعت مع نائب السلطنة بالقاعة التي في صدر إيوان دار السعادة ، وجلس نائب السلطنة في صدر المكان ، وجلسنا حوله ، فكان أول ما قال : كنا نحن الترك وغيرنا إذا اختلفنا واختصمنا نجيء بالعلماء فيصلحون بيننا ، فصرنا نحن إذا اختلفت العلماء واختصموا ، فمن يصلح بينهم ؟! وشرع في تأنيب من شنع على الشافعي بما تقدم ذكره من تلك الأقوال والأفاعيل التي كتبت في تلك الأوراق وغيرها ، وأن هذا يشفي الأعداء بنا ، وأشار بالصلح بين القضاة بعضهم من بعض ، فصمم بعضهم ، وامتنع من ذلك ، وجرت مناقشات من بعض الحاضرين فيما بينهم ، ثم حصل بحث في مسائل ، ثم قال نائب السلطنة أخيرا : أما سمعتم قول الله تعالى : عفا الله عما سلف [ المائدة : 95 ] . فلانت القلوب عند ذلك ، وأمر كاتب السر أن يكتب مضمون ذلك في مطالعة إلى الديار المصرية ، ثم خرجنا على ذلك . وفي أوائل هذا الشهر وردت المراسيم الشريفة السلطانية من الديار المصرية بأن يجعل للأمير من إقطاعه النصف خاصا له ، والنصف الآخر يكون لأجناده ، فحصل بهذا رفق عظيم بالجند وعدل كثير - ولله الحمد - وأن يتجهز الأجناد ويحرضوا على السبق ، والرمي بالنشاب ، وأن يكونوا مستعدين ، متى استنفروا نفروا ، فاستعدوا لذلك ، وتأهبوا لقتال الفرنج كما قال الله تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم الآية [ الأنفال : 60 ] . وثبت في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر : ألا إن القوة الرمي ، وفي الحديث الآخر : ارموا واركبوا ، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا .

وفي يوم الاثنين بعد الظهر عقد مجلس بدار السعادة للكشف على قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي بمقتضى مرسوم شريف ورد من الديار المصرية بذلك; وذلك بسبب ما يعتمده كثير من شهود مجلسه من بيع أوقاف لم يستوف فيها شرائط المذهب ، وإثبات إعسارات أيضا كذلك ، وغير ذلك . وحضر عندي في يوم الثلاثاء تاسع شوال البترك بشارة الملقب بميخائيل النصراني الملكي ، وأخبرني أن المطارنة بالشام بايعوه على أن جعلوه بتركا بدمشق عوضا عن البترك بأنطاكية ، فذكرت له أن هذا أمر مبتدع في دينهم ، فإنه لا تكون البتاركة إلا أربعة; بالإسكندرية ، وبالقدس ، وبأنطاكية ، وبرومية ، فنقل بترك رومية إلى إسطنبول وهي القسطنطينية ، وقد أنكر عليهم كثير منهم إذ ذاك ، فهذا الذي ابتدعوه في هذا الوقت أعظم من ذلك ! لكن اعتذر بأنه في الحقيقة هو عن أنطاكية ، وإنما أذن له في المقام بالشام الشريف; لأجل أنه أمره نائب السلطنة أن يكتب عنه وعن أهل ملتهم إلى صاحب قبرس ، يذكر له ما حل بهم من الخزي ، والنكال ، والجناية بسبب عدوان صاحب قبرس على مدينة الإسكندرية ، وأحضر لي الكتب إليه وإلى ملك إسطنبول ، وقرأها علي من لفظه - لعنه الله ولعن المكتوب إليهم أيضا - وقد تكلمت معه في دينهم ونصوص ما يعتقده كل من الطوائف الثلاث; وهم الملكية ، واليعقوبية - ومنهم الإفرنج والقبط - والنسطورية ، فإذا هو يفهم بعض الشيء ، ولكن حاصله أنه حمار من أكفر الكفار ، لعنه الله .

استعادة السلطان أويس ابن الشيخ حسن ملك العراق وفي هذا الشهر بلغنا استعادة السلطان أويس ابن الشيخ حسن ملك العراق وخراسان لبغداد من يد الطواشي مرجان الذي كان نائبه عليها وامتنع من طاعة أويس ، فجاء إليه في جحافل كثيرة ، فهرب مرجان ، ودخل أويس إلى بغداد دخولا هائلا ، وكان يوما مشهودا .

قدوم الأمير سيف الدين بيدمر من الديار على البريد وفي يوم السبت السابع والعشرين من شعبان قدم الأمير سيف الدين بيدمر من الديار المصرية على البريد أمير مائة مقدم ألف ، وعلى نيابة يلبغا في جميع دواوينه بدمشق وغيرها ، وعلى إمارة البحر وعمل المراكب ، فلما قدم أمر بجمع جميع النشارين ، والنجارين ، والحدادين ، وتجهيزهم لبيروت لقطع الأخشاب ، فسيروا يوم الأربعاء ثاني رمضان ، وهو عازم على اللحاق بهم إلى هنالك ، وبالله المستعان ، ثم أتبعوا بآخرين من نجارين ، وحدادين ، وعتالين ، وغير ذلك ، وجعلوا كل من وجدوه من ركاب الحمير ينزلونه ويركبوا إلى ناحية البقاع ، وسخروا لهم من الصناع وغيرهم ، وجرت خطبة عظيمة ، وتباكى عوائلهم وأطفالهم ، ولم يسلفوا شيئا من أجورهم ، وكان من اللائق أن يسلفوه حتى يتركوه إلى أولادهم .

وخطب برهان الدين المقدسي الحنفي بجامع يلبغا عوضا عن تقي الدين ابن قاضي القضاة شرف الدين الكفري ، بمرسوم شريف ومرسوم نائب صفد أسندمر أخي يلبغا ، وشق ذلك عليه وعلى جده وجماعتهم ، وذلك يوم الجمعة الرابع من رمضان ، هذا وحضر عنده خلق كثير .

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين منه قرئ تقليد قاضي القضاة شرف الدين ابن قاضي الجبل لقضاء الحنابلة ، عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين المرداوي ، عزل هو والمالكي معه أيضا; بسبب أمور تقدم نسبتها لهما ، وقرئ التقليد بمحراب الحنابلة ، وحضر عنده الشافعي ، والحنفي ، وكان المالكي معتكفا بالقاعة من المنارة الغربية ، فلم يخرج إليهم; لأنه معزول أيضا بسري الدين قاضي حماة ، وقد وقعت شرور وتخبيط بالصالحية وغيرها .

وفي صبيحة يوم الأربعاء الثلاثين من شهر رمضان خلع على قاضي القضاة سري الدين إسماعيل المالكي - قدم من حماة على قضاء المالكية - عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي - عزل عن المنصب - وقرئ تقليده بمقصورة المالكية من الجامع ، وحضر عنده القضاة والأعيان .

وفي صبيحة يوم الأربعاء سابع شوال قدم الأمير حيار بن مهنا إلى دمشق سامعا مطيعا ، بعد أن جرت بينه وبين الجيوش حروب متطاولة ، كل ذلك ليطأ البساط ، فأبى خوفا من المسك والحبس أو القتل ، فبعد ذلك كله قدم هذا اليوم قاصدا الديار المصرية; ليصطلح مع الأمير الكبير يلبغا ، فتلقاه الحجبة ، والمهمندارية ، والخلق ، وخرج الناس للفرجة ، فنزل القصر الأبلق ، وقدم معه نائب حماة عمر شاه فنزل معه ثاني يوم إلى الديار المصرية . وأقرأني القاضي ولي الدين عبد الله وكيل بيت المال كتاب والده قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية; أن الأمير الكبير جدد درسا بجامع ابن طولون فيه سبعة مدرسين للحنفية ، وجعل لكل فقيه منهم في الشهر أربعين درهما ، وإردب قمح ، وذكر فيه أن جماعة من غير الحنفية انتقلوا إلى مذهب أبي حنيفة لينزلوا في هذا الدرس . درس التفسير بالجامع الأموي درس التفسير بالجامع الأموي

وفي صبيحة يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شوال سنة سبع وستين وسبعمائة حضر الشيخ العلامة عماد الدين بن كثير درس التفسير الذي أنشأه ملك الأمراء نائب السلطنة الأمير سيف الدين منكلي بغا ، من أوقاف الجامع التي جددها في حال نظره عليه ، أثابه الله ، وجعل من الطلبة من سائر المذاهب خمسة عشر طالبا ، لكل طالب في الشهر عشرة دراهم ، وللمعيد عشرون ، ولكاتب الغيبة عشرون ، وللمدرس ثمانون ، وتصدق حين دعوته لحضور الدرس ، فحضر ، واجتمع القضاة والأعيان ، وأخذت في أول تفسير " الفاتحة " ، وكان يوما مشهودا ، ولله الحمد والمنة ، وبه التوفيق والعصمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية