صفحة جزء
(والثالث) ففيه أن المنكر لاشتقاقه لا يسلم التوافق في المعنى، على أنه لا يستلزم الوصفية أيضا، وكون المدعي ظني، فيكفي فيه الحدس من مثل ذلك لا يجدي نفعا، إذ لنا أن نقول مثله، والمنشأ أتم، والظن أقوى، والوجوه التي ذكرت في الإبطال ترهقها ذلة، لأنها كلها متوجهة تلقاء الغلبة، وهي وإن لم تكن تحقيقية ضعيفة بل تقديرية قوية لكنها على كل حال دون العلمية الأصلية قوة وشرفا، فالعدول عن الأشرف في هذا الاسم الأقدس مما لا أسوغ الإقدام عليه، ودون إثبات الداعي نفي الرقاد، وخرط القتاد، وقد رأيت بعض ذلك، فالذي أرتضيه لا عن تقليد أن هذا الاسم الأعظم موضوع للذات الجامعة لسائر الصفات، وإلى ذلك يشير كلام ساداتنا النقشبندية، بلغنا الله تعالى ببركاتهم كل أمنية، في الوقوف القلبي، وهو أن يلاحظ الذاكر في قلبه كلما كرر سكر هذا الاسم الأقدس ذاتا بلا مثل، وحققه الشيخ الأكبر قدس سره في مواضع عديدة من كتبه، هذا وتفخيم اللام من هذا الاسم الكريم إذا انفتح ما قبله أو انضم طريقة معروفة عند القراء، وقيل مطلقا، وحذف ألفه لغة حكاها ابن الصلاح، وفي التيسير: إنها لغة ثابتة في الوقف دون الوصل، والأفصح الإثبات، حتى قال بعضهم: إن الحذف لحن تفسد به الصلاة، ولا ينعقد به صريح اليمين، ولا يرتكب إلا في الضرورة، كقوله :


ألا لا بارك الله في سهيل إذا ما بارك الله في الرجال

وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في الفتوحات عن أسرار حروفه، وأتى بالعجب العجاب، وفي ظهور الألف تارة، وخفائها أخرى، وسكون اللام أولا، وتحركها ثانيا، والختم باطنا بما به البدء ظاهرا، واشتمال الكلمة على متحرك وساكن، وصالح لأن يظهر بأحد الأمرين، إشارات لا تخفى على العارفين، فارجع إلى كتبهم، فهم أعرف بالله تعالى منا، سبحان من احتجب بنور العظمة، حتى تحيرت الأفهام في اللفظ الدال عليه، إذ انعكست له من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين، فلم يستطيعوا أن يمعنوا النظر فيه وإليه، والقصور في القابل، لا في الفاعل :


توهمت قدما أن ليلى تبرقعت     وأن حجابا دونها يمنع اللثما
فلاحت فلا والله ما ثم حاجب     سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى



والرحمن الرحيم المشهور أنهما صفتان مشبهتان، بنيتا لإفادة المبالغة، وأنهما من رحم مكسور العين، نقل إلى رحم [ ص: 59 ] مضمومها بعد جعله لازما، وهذا مطرد في باب المدح والذم، وأن الرحمة في اللغة رقة القلب، ولكونها من الكيفيات التابعة للمزاج المستحيل عليه سبحانه تؤخذ باعتبار غايتها، إما على طريقة المجاز المرسل بذكر لفظ السبب وإرادة المسبب، وإما على طريقة التمثيل بأن شبه حاله تعالى بالقياس إلى المرحومين في إيصال الخير إليهم بحال الملك إذ رق لهم، فأصابهم بمعروفه، وإنعامه، فاستعمل الكلام الموضوع للهيئة الثانية في الأولى من غير أن يتمحل في شيء من مفرداته، وإما على طريقة الاستعارة المصرحة بأن يشبه الإحسان على ما اختاره القاضي أبو بكر ، أو إرادته على ما اختاره الأشعري، بالرحمة، بجامع ترتب الانتفاع على كل، ويستعار له الرحمة ويشتق منها الرحمن الرحيم على حد - الحال ناطقة بكذا - وإما على طريقة الاستعارة المكنية التخييلية بأن يشبه معنى الضمير فيهما العائد إليه تعالى بملك رق قلبه على رعيته تشبيها مضمرا في النفس، ويحذف المشبه به، ويثبت له شيء من لوازمه، وهو الرحمة، وقيل: الرحمة في ذلك حقيقة شرعية، وأن الرحمن أبلغ من الرحيم، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، فتؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا، لأنه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة، لأنه يخص المؤمن، وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، لأن النعم الأخروية كلها جسام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة، وأنه إنما قدم الرحمن، والقياس يقتضي الترقي لتقدم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعلم من حيث أنه لا يوصف به غيره، لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره، وقول بني حنيفة في مسيلمة: رحمن اليمامة، وقول شاعرهم فيه :


سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا     وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

غلو في الكفر، أو التقديم لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم، وأصولها، ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة والرديف له، أو للمحافظة على رؤوس الآي، هذا وجميعه لا يخلو عن مقال، ولا يسلم من رشق نبال، أما أولا فلأن الصفة المشبهة لا تبنى إلا من لازم، ولذا قال في التسهيل : إن ربا، وملكا، ورحمانا، ليست منها لتعدي أفعالها، أو لم يقل أحد بنقل ما تعدى منها لفعل المضموم العين، والمسطور في المتون المعول عليها أن فعل المفتوح والمكسور إذا قصد به التعجب يحول إلى فعل المضموم، كـقضو الرجل بمعنى: ما أقضاه، وحينئذ فيه اختلاف، هل يعطى حكم نعم، أو فعل التعجب، كما فصلوه ثمة، وإلحاقهم له بنعم كالصريح في عدم تصرفه، وأنه لا يؤخذ منه صفة أصلا، وكون رفيع الدرجات بمعنى: رفيع درجاته، لا رافع الدرجات، لا يجدي نفعا، وإنما فسروه بما ذكر، لأن المراد درجات عزه، وجبروته، ليناسب المراد من قوله: ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وهي بسطة ملكه، وسعة ملكوته، وتلك الدرجات ليست مرفوعة بفعل، ونقل ذلك عن الزمخشري في (الفائق)، بعد تسليم أنه مذكور فيه، معارض بما صرح به هو في غيره (كالمفصل)، على أن قولهم: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة بالإضافة إلى المفعول، كما نص عليه دون الفاعل، يقتضي عدم اللزوم، وأنهما ليسا بصفة مشبهة، فالأصح أنهما من أبنية المبالغة الملحقة باسم الفاعل، وأخذا من فعل متعد، وذلك في الرحيم ظاهر، وقد نص عليه سيبويه في قولهم: رحيم فلانا، وكذا الزجاج ، والصيغة تساعده، وللاشتباه [ ص: 60 ] في الرحمن، وعدم ذكر النحاة له في أبنية المبالغة قال الأعلم وابن مالك : إنه علم في الأصل لا صفة، ولا علم بالغلبة التقديرية التي ادعاها الجل من العلماء، وأما ثانيا فلأن نقل فعل المكسور إلى فعل المضموم لا يتوقف على جعله لازما، أولا لأنه بمجرد النقل يصير كذلك، وتحصيل المناسبة بين المنقول والمنقول إليه باللزوم لعدم الاكتفاء فيها بمطلق الفعلية، مما لا يخفى ما فيه، وأما ثالثا فلأن كون الرحمة في اللغة رقة القلب، إنما هو فينا، وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى، لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته، كسائر صفاته، ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين، وأين التراب من رب الأرباب، ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة له تعالى لاستحالة اتصافه بما نتصف به، فليوجب كون الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر، ما نعلمه منها فينا ارتكاب المجاز أيضا فيها، إذا أثبتت لله تعالى، وما سمعنا أحدا قال بذلك، وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك، وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها، فأما أن يقال: بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبت إليه عز شأنه أو بتركه كذلك، وإثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه، والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته، مما لا يعود منه نقص إليه سبحانه، بل ذلك من عزة كماله وكمال عزته، والعجز عن درك الإدراك إدراك، فالقول بالمجاز في بعض والحقيقة في آخر لا أراه في الحقيقة إلا تحكما بحتا، بل قد نطق الإمام السكوتي في كتابه (التمييز لما للزمخشري من الاعتزال في تفسير كتاب الله العزيز) بأن جعل الرحمة مجازا نزغة اعتزالية، قد حفظ الله تعالى منها سلف المسلمين، وأئمة الدين، فإنهم أقروا ما ورد على ما ورد، وأثبتوا لله تعالى ما أثبته له نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، من غير تصرف فيه بكناية أو مجاز، وقالوا: لسنا أغير على الله من رسوله، لكنهم نزهوا مولاهم عن مشابهة المحدثات، ثم فوضوا إليه سبحانه تعيين ما أراده هو أو نبيه من الصفات المتشابهات، والأشعري إمام أهل السنة ذهب في النهاية إلى ما ذهبوا إليه، وعول في الإبانة على ما عولوا عليه، فقد قال في أول كتاب الإبانة الذي هو آخر مصنفاته : أما بعد، فإن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة ، وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم، ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا، ولا أوضح به برهانا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا عن السلف المتقدمين، وساق الكلام إلى أن قال : فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة ، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، وما روي عن الصحابة، والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله تعالى به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير معظم مفخم، وعلى جميع أئمة المسلمين، ثم سرد الكلام في بيان عقيدته مصرحا بإجراء ما ورد من الصفات على حالها، بلا كيف غير متعرض لتأويل، ولا ملتفت إلى قال وقيل، فما نقل عنه من تأويل صفة الرحمة إما غير ثابت أو مرجوع عنه، والأعمال بالخواتيم، وكذا يقال في حق غيره من القائلين به من أهل السنة على أنه إذا سلم [ ص: 61 ] الرأس كفى، ومن ادعى ورود ذلك عن سلف المسلمين فليأت ببرهان مبين، فما كل من قال يسمع، ولا كل من ترأس يتبع.


أما الخيام فإنها كخيامهم     وأرى نساء الحي غير نسائهم

والعجب من علماء أعلام، ومحققين فخام كيف غفلوا عما قلناه، وناموا عما حققناه، ولا أظنك في مرية منه، وإن قل ناقلوه، وكثر منكروه، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وأما رابعا فلأن إجراء الاستعارة التمثيلية هنا مع أنه تكلف لا سيما على مذهب السيد السند قدس سره فيه ظاهرا نوع من سوء الأدب، إذ لا يقال: إن لله تعالى هيئة شبيهة بهيئة الملك، ولم يرد إطلاق الحال عليه سبحانه وتعالى، فهل هذا إلا تصرف في حق الله تعالى بما لم يأذن به الله، ومثل هذا أيضا مكنى في المكنية، وبلاغة القرآن غنية عن تكلف مثل ذلك، وأما خامسا فلأن وجه تشبيه الإحسان في احتمال الاستعارة المصرحة بالرحمة التي هي رقة القلب غير صريح، لأنه لا ينتفع بها نفسها، وإنما الانتفاع بآثارها، وكم من رق قلبه على شخص حتى أرق له، لم ينفعه بشيء، ولا أعانه بحي ولا لي.


أهم بأمر الحزم لا أستطيعه     وقد حيل بين العير والنزوان

ولا كذلك الانتفاع بالإحسان، وأما الإرادة فهي إن قلنا بصحة إرادتها هنا لا تصح في وجه المجاز المرسل بالنظر إليه تعالى، بل أنك إذا تأملت وأنصفت وجدت الرحمة إن تسببت الإحسان أو أرادته، فإنما تسببه إذا كانت هي وهو صفتين لنا، ومجرد السببية والمسببية في هذه الحالة لا يوجب كون الرحمة المنسوبة إليه عز شأنه مجازا مرسلا عن أحد الأمرين، وبفرض وجود الرحمة بذلك المعنى فيه تعالى كيفما كان الفرض لا نجزم بالسببية والمسببية أيضا، وقياس الغائب على الشاهد مما لا ينبغي، والفرق مثل الصبح ظاهر، والذهن مقيد عن دعوى الإطلاق لما لا يخفى عليك، فتأمل في هذا المقام، فقد غفل عنه أقوام بعد أقوام، وأما سادسا فلأن كون الرحمن أبلغ من الرحيم غير مسلم، وإن قال الراغب : إن فعيلا لمن كثر منه الفعل، وفعلان لمن كثر منه وتكرر حتى قيل: الرحيم أبلغ لتأخره، وقول ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسئل غضب، وقيل: هما سواء لظاهر الحديث الذي أخرجه الحاكم في المستدرك مرفوعا: (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)، وإليه ذهب الجويني ، وقرره بأن فعلان لمن تكرر منه الفعل وكثر، وفعيل لمن ثبت منه الفعل ودام، وفرق بعضهم بينهما بأن الرحمن دال على الصفة القائمة به تعالى، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للصفة، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم ذلك فتأمل قوله تعالى: وكان بالمؤمنين رحيما إنه بهم رءوف رحيم ولم يجئ قط رحمن، فإنه يستشعر منه أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته، وما ذكر من قولهم: لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، قاعدة أغلبية، أسسها ابن جني، فلعلها لا تثبت مع بسم الله الرحمن الرحيم، وقد نقضت بحذر، فإنه أبلغ من حاذر، مع زيادة حروفه، فإن أجيب بأنها أكثرية، فيأمر حبا بالوفاق، وإن أجيب بأن ما ذكر لا ينافي أن يقع في البناء إلا نقص زيادة معنى بسبب آخر، كالإلحاق بالأمور الجبلية مثل شره ونهم، فجاز أن حاذرا أبلغ من حذر، لدلالته على زيادة الحذر، وإن لم يدل على ثبوته ولزومه فهو على ما فيه لا يصفو على كدر، لأنهم صرحوا بأنه قد كثر استعمال فعيل في الغرائز كشريف وكريم، وفعلان في غيرها كغضبان وسكران، فيقتضي أنه أبلغ، ولو من وجه أولا فسواء، وإن أجيب بأن القاعدة فيما إذا كان اللفظان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان، وصد وصديان، ورحيم ورحمن، لا كحذر وحاذر، للاختلاف، فإن أحدهما اسم فاعل والآخر صفة مشبهة، فيقال: قد صرح ابن الحاجب بأنه من أبنية المبالغة المعدودة من اسم الفاعل، فهما متحدان نوعا أيضا، فيحصل الانتقاض البتة، ثم أنهم استشكلوا الأبلغية [ ص: 62 ] بأن أصل المبالغة مما لا يمكن هنا، لأنها عبارة عن أن تثبت للشيء أكثر مما له، وذلك فيما يقبل الزيادة والنقص، وصفاته تعالى منزهة عن ذلك، لاستلزامه التغير المستلزم للحدوث، وأجيب بأن المراد الأكثرية في التعلقات والمتعلقات، لا في الصفة نفسها، وهذا إذا كانت صفة ذات، وإن كانت صفة فعل فلا إشكال، على ما ذهب إليه الأشاعرة من القول بحدوثها، وأما على ما ذهب إليه ساداتنا الماتريدية القائلون بقدوم صفة التكوين فيجاب بما أجيب به عن الأول.

وأما سابعا فلأن قولهم: فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا، لأنه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة، لأنه يخص المؤمن، إن أرادوا به أن أبلغية الرحمن ههنا باعتبار كثرة أفراد الرحمة في الدنيا لوجودها في المؤمن والكافر فلا يستقيم عليه، ورحيم الآخرة، إذ النعم الأخروية غير متناهية، وإن خصت المؤمن، وإن أرادوا أنها باعتبار كثرة أفراد المرحومين فلا يخفى أن كثرة أفرادهم إنما تؤثر في الأبلغية باعتبار اقتضائها كثرة أفراد الرحمة في الدنيا أيضا، ومعلوم أن أفراد الرحمة في الآخرة أكثر منها بكثير، بل لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا، فهذا الوجه مخدوش على الحالين، على أن في اختصاص رحمة الآخرة بالمؤمنين مقالا، إذ قد ورد في الصحيح شفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم لعامة الناس من هول الموقف، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وروي تخفيف العذاب عن بعض الأشقياء في الآخرة، وكون الكفار في الأول تبعا غير مقصودين، كيف وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد منه، فليس ذلك رحمة في حقهم، والتخفيف في الثاني على تقدير تحققه نزول من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها، فليس رحمة من كل الوجوه، ليس بشيء، أما أولا فلأن القصد تبعا وأصالة لا مدخل له، وحبذا الولد من أين جاء، وأما ثانيا فلأن ملاقاتهم بعد لما هو أشد فلا يكون ذاك رحمة في حقهم يستدعي أن لا رحمة من الله تعالى لكافر في الدنيا، كما قد قيل به لقوله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وقوله تعالى: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فيبطل حينئذ دعوى شمول الرحمة المؤمن والكافر في الدنيا، إذ لا فرق بين ما يكون للكافر في الدنيا مما يتراءى أنه رحمة، وما يكون له في الآخرة، فوراء كل عذاب شديد، وأما ثالثا فلأن كون التخفيف ليس برحمة من كل الوجوه لا يضر، وكل أهل النار يتمنى التخفيف، وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب وحنانيك بعض الشر أهون من بعض، وأما ثامنا فلأن قولهم: وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، إلخ، فيه بعض شيء، وهو أنه يصح أن يكون بالاعتبار الأول، لأن نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الآخرة، نعم يجاب عنه بأنه يلزم حينئذ أن يكون ذكر رحيم الدنيا لغوا، ولا يلزم ذلك على اعتبار الكيفية، إذ المراد: يا موليا لجسام النعم في الدارين، ولما دونها في الدنيا، وأيضا مقصود القائل التوسل بكلا الاسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها مشيرا إلى عموم الأول، وخصوص الثاني، ويحصل في ضمنه الاهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه، الباعثة لمريد شكره، إلا أنه يرد عليه كسابقه أن الأثر لا يعرف، والمعروف المرفوع: (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)، وكفاية كونه من كلام السلف ليس بشيء، كما لا يخفى، وأما تاسعا فلأن السؤال عن تقديم الرحمن معترض بمقبول ومردود، وذكر ابن هشام أنه غير متجه، لأن هذا خارج عن كلام العرب، إذ لم يستعمل صفة ولا مجردا من أل، فهو بدل لا نعت، والرحيم نعت له، لا نعت لاسم الله سبحانه، إذ لا يتقدم البدل على النعت، ومما يوضح لك أن الرحمن غير صفة مجيئه كثيرا غير تابع نحو: الرحمن على العرش استوى ، الرحمن علم القرآن ، قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ، وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ، وقال ابن خروف : هو صفة غالبة، ولم يقع تابعا إلا لله تعالى [ ص: 63 ] في البسملة، والحمد له، ولذا حكم عليه بغلبة الاسمية، وقل استعماله منكرا ومضافا، فوجب كونه بدلا، لا صفة، لكون لفظة الله أعرف المعارف، وقال غير واحد : أنهما ذكرا لإفادة الشمول والعموم كما تقول: الكبير والصغير يعرفه، ولو عكست صح، وكان المعنى بحاله، ومثله لا يلزم فيه الترتيب كما فصل في المثل السائر، وللعلماء في هذا الترتيب كلام كثير، وادعى العلامة المدقق في الكشف أن التحقيق يقتضي أن يرد النظم على هذا الوجه، ولا يجوز غيره، لأن الله اسم للذات الإلهية باعتبار أن الكل منه وإليه وجودا ورتبة وماهية، والرحمن اسم له باعتبار إفاضة الرحمة العامة، أعني الوجود على الممكنات، والرحيم اسم له باعتبار تخصيص كل ممكن بحصة من الرحمة، وهي الوجود الخاص، وما يتبعه من وجود كمالاته، فلو لم يورد كذلك، لم يكن على النهج الواقع ذوقا وشهودا، عقلا ووجودا، وأيضا لما كان المقصود تعليم وجه التيمن بأسمائه الحسنى وتقديمها عند كل ملم، كان المناسب أن يبدأ من الأعلى فالأعلى إرشادا لمن يقتصر على واحد أن يقتصر على الأولى، فالأولى، وتقريرا في ذهن السامع لوجه التنزل أولا فأولا انتهى، ويؤيد بعضه بعض ما أسلفناه من الآثار، والبعض الآخر في القلب منه شيء، لأن تخصيص الرحمن بالوجود العام، والرحيم بالكلمات تحكم غير مرضي، وربما ينافي المأثور على أنه لا معنى لإفاضة الوجود على الكل، إلا تخصيص كل ممكن بحصة منه، وهل يوجد في الخارج من النوع إلا الحصص الإفرادية، فتخصيص الإفاضة بالرحمن، والتخصيص بالرحيم على ما يلوح بمعزل عن التحقيق، والعجب ممن فاته ذلك، وأما عاشرا فلأن ما ذكروه في الجواب عن قول بني حنيفة بأنه غلو في الكفر، فيكون الإطلاق غير صحيح لغة وشرعا فيه أنه إذا كان إطلاقه عليه تعالى شأنه مجازا، كما زعموا، وبالغلبة، فكيف يقال: إن استعماله في حقيقته، وأصل معناه خطأ لغة، وقد ذهب السبكي إلى أن المخصوص به تعالى هو المعرف دون المنكر والمضاف، لوروده لغيره، ورد به على القول بأنه مجاز لا حقيقة له، وأن صحة المجاز إنما تقتضي الوضع للحقيقة لا الاستعمال، نعم هو في لسان الشرع يمنع إطلاقه على غيره مطلقا، وإن جاز لغة كالصلاة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبذلك صرح العز بن عبد السلام، وقيل: إن رحمانا في البيت مصدر لا صفة مشبهة، والمراد: لا زلت ذا رحمة، وفيه ما لا يخفى، وأفهم كلامه أن الرحيم يوصف به غيره تعالى، وهو المعروف، لكن أخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن البصري أنه قال : الرحيم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، ولعل مراده المعرف دون المنكر والمضاف، فافهم، وأما الحادي عشر، فلأن المحافظة على رؤوس الآي إنما تحسن كما قال الزمخشري بعد إيقاع المعاني على النهج الذي يقتضيه حسن النظم، والتئامه، فأما أن تهمل المعاني، ويهتم للتحسين وحده، فليس من قبيل البلاغة.

وقال الشيخ عبد القاهر : أصل الحسن في جميع المحسنات اللفظية أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني، فمجرد المحافظة على الرؤوس لا يصير نكتة للتقديم إلا بعد أن يثبت أن المعاني إذا أرسلت على سجيتها كانت تقتضي التقديم، على أن المحافظة لا تجري في كل سورة بل فيها ما يقتضي خلاف هذا، كسورة الرحمن، وأيضا هو مبني على أن الفاتحة أول نازل، فروعي فيها ذلك، ثم اطرد في غيرها، وعلى أن البسملة آية من السورة، ودون ذلك سور من حديد، وعندي من باب الإشارة أن تأخير الرحيم لأنه صفة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قال تعالى : بالمؤمنين رءوف رحيم وبه عليه السلام كمال الوجود، وبالرحيم تمت البسملة، وبتمامها تم العالم خلقا وإبداعا، وكان [ ص: 64 ] صلى الله تعالى عليه وسلم مبتدأ وجود العالم عقلا ونفسا، فبه بدء الوجود باطنا، وبه ختم المقام ظاهرا في عالم التخطيط، فقال: لا رسول بعدي، فالرحيم هو نبينا عليه الصلاة والسلام، وبسم الله هو أبونا آدم عليه السلام، وأعني في مقام ابتداء الأمر ونهايته، وذلك أن آدم عليه السلام حامل الأسماء، قال تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم حامل معاني تلك الأسماء التي حملها آدم عليه السلام.


لك ذات العلوم من عالم الغيــــــ     ــب ومنها لآدم الأسماء

وهي الكلم، قال صلى الله تعالى عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم)، ومن أثنى على نفسه أمكن وأتم ممن أثني عليه كيحيى، وعيسى عليهما السلام، ومن حصل له الذات فالأسماء تحت حكمه، وليس كل من حصل اسما يكون المسمى محصلا عنده، ولهذا فضلت الصحابة علينا رضوان الله تعالى عليهم، فإنهم حصلوا الذات، وحصلنا الأسماء، ولما راعينا الاسم مراعاتهم الذات ضوعف لنا الأجر، فللعامل منا أجر خمسين ممن يعمل بعمل الصحابة، لا من أعيانهم، بل من أمثالهم، والحسرة الغيبة التي لم تكن لهم، فكان تضعيف على تضعيف، فنحن الإخوان وهم الأصحاب، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم إلينا بالأشواق، وما أفرحه بلقاء واحد منا، وكيف لا يفرح، وقد ورد عليه من كان بالأشواق إليه، وأيضا وجدنا بين الله والرحمن من المناسبة ما ليس بينه وبين الرحيم، فلهذا قدم الرحمن على الرحيم، بيان ذلك أما أولا فلاقتران الرحمن بالجلالة في قوله تعالى : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى وقد يشعر هذا الاقتران بجعلهما للذات، ولذلك اختار من اختار البدل على النعت، وجعلوه إشارة إلى مقام الجمع المرموز إليه بما صح عند القوم من طريق الكشف أن الله تعالى خلق آدم على صورته، والرحيم ليس كذلك، وأما ثانيا، فلأن في الله، وفي الرحمن ألفين، ألف الذات وألف العلم، والأولى في كل خفية، والثانية ظاهرة، وإنما خفيت الأولى في الأول لرفع الالتباس في الخط بين الله والإله، وفي الثاني على ما عليه أهل الله في رسمه، وهو أحد الرسمين عند أهل الرسوم لدلالة الصفات عليهما دلالة ضرورية من حيث قيام الصفة بالموصوف، فخفيت الذات وتجلت للعالم الصفات فلم يعرفوا من الإله غيرها، والجهل هنا كمال، وذلك حقيقة العبودية.


زدني بفرط الحب فيك تحيرا     وارحم حشا بلظى هواك تسعرا

فالرحمن مشير إلى الذات، وسائر الصفات، فالألف الظاهرة واللام والراء إشارة إلى العلم، والإرادة، والقدرة، والحاء، والميم، والنون إشارة إلى الكلام، والسمع، والبصر، وشرط هذه الصفات الحياة، ويتحقق المشروط بدون الشرط، فظهرت الصفات السبع بأسرها، وخفيت الذات كما ترى، وادعى بعض العارفين أن الألف الخفية هنا ظهرت من حيث الجزئية من هذا اللفظ في الشيطان بناء على أخذه من شطن، وزيادة الألف فيه للإشارة إلى عموم الرحمة، الرحمن على العرش استوى فللشيطان أيضا حصة منها، ومنها وجوده، وبقي سر لا يمكن كشفه، ولا كذلك الرحيم، إذ ليس فيه إلا ألف العلم، ولما كان هذا الاسم مشيرا إلى سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم باعتبار رتبته ظهرت فيه لكونه المرسل إلى الناس كافة، فطلب التأييد فأعطيها، فظهر بها، وأما ثالثا، فقد طال النزاع في تحقيق لفظ الرحمن كما طال في تحقيق لفظ الله، حتى توهم أنه ليس بعربي، لنفور العرب منه، فإنهم لما قيل لهم: اعبدوا الله، لم يقولوا: وما الله؟ ولما قيل لهم: اسجدوا للرحمن، قالوا: وما الرحمن؟ ولعل سبب ذلك توهمهم التعدد، وأنهم خافوا أن يكون المعبود الذي يدلهم عليهم من جنسهم، فأنكروه لذلك، لا لأنه ليس بعربي، واختلف أيضا في الصرف، وعدمه قال ابن الحاجب : النون والألف إذا كانا في اسم [ ص: 65 ] فشرطه العلمية، وفي صفة فانتفاء فعلانة، وقيل: وجود فعلى، ومن ثمة اختلف في رحمن، دون سكران وندمان، وبنو أسد يصرفون جميع فعلان، لأنهم يقولون في كل مؤنث له فعلانة ا.هـ، وقال في التسهيل: واختلف فيما لزم تذكيره، كلحيان بمعنى كبير اللحية، فمن منعه ألحقه بباب سكران، لأنه أكثر، ومن حذفه رأى أنه ضعف داعي منعه، والأصل الصرف، واختار الزمخشري ، والشيخ الرضي، وابن مالك واستظهره البيضاوي عدم الصرف إلحاقا له بما هو أغلب في بابه، لأن الغالب في فعلان صفة فعلى حتى ذكر الإمام السيوطي أن ما مؤنثه فعلانة لم يجئ إلا أربعة عشر لفظا، بل إن فعلان صفة من فعل بالكسر، لم يجئ منه ما مؤنثه فعلانة أصلا، إلا ما رواه المرزوقي من خشيان وخشيانة، وإنما اقتضى الإلحاق أظهرية ذلك، مع أن كون الأصل في الاسم الصرف يقتضي خلافه، لأن رعاية ما هو الغالب في النوع أولى من رعاية الأصل، والحشر مع الجماعة عيد، ولما رأى السعد أن هذه المسألة مما تعارض فيها الأصل والغالب، ولم يترجح عنده أحدهما مال إلى جواز الصرف وعدمه عملا بالأمرين، والإعمال في الجملة أولى من الإهمال بالكلية، وحيث لم يسمع هذا الاسم إلا مضافا أو، معرفا بأل، أو منادى، وما ورد شاذا كما في البيت لا يصلح شاهدا لأحد الأمرين لاحتمال أن يكون ممنوعا، وألفه للإطلاق، عدلوا إلى الاستدلال واتسعت دائرة المقال، والرحيم سليم من هذا، فافهم ذاك، والله يتولى هداك، وإنما جعل الله البسملة مبدأ كلامه لوجهين: أما الأول فلأنها إجمال ما بعدها، وهي آية عظيمة، ونعمة للعارف جسيمة، لا نهاية لفوائدها، ولا غاية لقيمة فوائدها، والباحث عنها مع قصرها إذا أراد ذرة من علمها ودرة من عيلمها احتاج إلى باع طويل في العلوم، واطلاع عريض في المنطوق والمفهوم، مثلا إذا أراد أن يبحث عن الباء من حيث أنها حرف جر، بل عن سائر كلماتها من حيث الإعراب والبناء احتاج إلى علم النحو، وإذا أراد أن يبحث عن أصول كلماتها كيف كانت، وكيف آلت احتاج إلى علمي الصرف والاشتقاق، وإن أراد أن يبحث عن نحو القصر بأقسامه، وهل يوجد فيها شيء منه احتاج إلى علم المعاني، وإن أراد أن يبحث عما فيها من الحقيقة والمجاز احتاج إلى علم البيان، وإن أراد أن يبحث عما بين كلماتها من المحسنات اللفظية احتاج إلى علم البديع، وإن أراد أن يبحث عنها من حيث أنها شعر أو نثر موزون، أو غير موزون مثلا احتاج إلى علمي العروض والقوافي، وإن أراد أن يعرف مدلولات الألفاظ لغة احتاج إلى مراجعة اللغة، وإن أراد أن يعرف من أي الأقسام وضع هاتيك الألفاظ احتاج إلى علم الوضع، وإن أراد معرفة ما في رسمها احتاج إلى علم الخط، وإن أراد البحث عن كونها قضية، ومن أي قسم من أقسامها، أو غير قضية احتاج إلى علم المنطق، وإن أراد أن يعرف أن كنه ما فيها من الأسماء هل يعلم أولا؟ احتاج إلى علم الكلام، وإن أراد معرفة حكم الابتداء بها، وهل يختلف باختلاف المبدوء به؟ احتاج إلى علم الفقه، وإن أراد معرفة أن ما فيها ظاهر أو نص مثلا احتاج إلى علم الأصول، وإن أراد معرفة تواترها احتاج إلى علم المصطلح، وإن أراد معرفة أنها من أي مقولة من الأعراض احتاج إلى علم الحكمة، وإن أراد معرفة طبائع حروفها احتاج إلى علم الحرف، وإن أراد معرفة أنواع الرحمة المشار إليها بها، احتاج إلى علم الأفلاك، وعلم تشريح الأعضاء، وخواص الأشياء، وعلم المساحة، وغير ذلك، وإن أراد معرفة ما يمكن التخلق به مما تدل عليه الأسماء احتاج إلى علم الأخلاق، وإن أراد معرفة ما خفي على أرباب الرسوم من الإشارات فليضرع إلى ربه، وإن أراد أن يقف على جميع ما فيها من الأسرار فليعد غير المتناهي، وكيف يطمع في ذلك وهي عنوان كلام الله تعالى المجيد، وخال وجنة القرآن الذي لا يأتيه الباطل [ ص: 66 ] من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.


وعلى تفنن واصفيه بوصفه     يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

وإن أردت أن تمتحن ذهنك في بعض أسرارها فتأمل سر افتتاحها واختتامها بحرفين شفويين، ومع كل ألف صورية متصلة بأول الأول، وآخر الآخر، وتحت الأول دائرة غيبية ظهرت في صورة الثاني، وسر ما وقع فيها من أنواع التثليث، أما أولا ففي مخارج الحروف، فإنها ثلاثة: الشفة، واللسان، والحلق في الباء واللام والهام، وأما ثانيا ففي المحذوف من حروفها، فإنها ثلاثة أيضا: ألف الاسم، وألف الله، وألف الرحمن، وأما ثالثا ففي المنطوق منها والمرسوم فإنه ثلاثة أنواع أيضا، منطوق به مرسوم كالباء، ومنطوق به غير مرسوم كألف الرحمن، ومرسوم غير منطوق به كاللام منه مثلا، وأما رابعا ففي المتحرك والساكن، فمتحرك لا يسكن كالباء، وساكن لا يتحرك كالألف، وقابل لهما كميم الرحيم وقفا ووصلا، وأما خامسا ففي أنواع كلماتها الملفوظة والمقدرة فهي على رأي اسم وفعل وحرف، وأما سادسا ففي أنواع الجر الذي فيها، فهو جر بحرف وبإضافة، وبتبعية على المشهور، وأما سابعا ففي الأسماء الحسنى التي دبجتها فهي الله، والرحمن، والرحيم، وأما ثامنا ففي العاملية والمعمولية، فكلمة عاملة غير معمولة، ومعمولة غير عاملة، وعاملة معمولة، وأما تاسعا ففي الاتصال والانفصال، فمتصل بما بعده فقط، وبما قبله فقط، وبما بعده وقبله، وفي كل واحد من هذه الثلاثيات أسرار تحير الأفكار، وتبهر أولي الأبصار، وانظر: لم اشتملت حروفها على الطبائع الأربع، وتقدم في الظهور الهواء، ولم كانت تسعة عشر، ولم اعتنق اللام الألف واتصلت الميم باللام والهاء بالراء، والنون بها نطقا لا خطا، ولم فتح ما قبل الألف حتى لم يتغير في موضع أصلا، وتفكر في سر تربيع الألفاظ وسكون السين، وتحرك الميم، ونقطتي الياء، ونقطة النون، والباء، والأمر وراء ما يظنه أرباب الرسوم، ونهاية ما ذكروه البحث عن المدلولات وتوسيع دائرة المقال بإبداء الاحتمالات، وقد صرح السرميني بإبداء خمسة آلاف ألف وثلثمائة ألف وأحد وتسعين ألفا وثلثمائة وستين احتمالا، وزدت عليه من فضل الله تعالى حين سئلت عن ذلك بما يقرب أن يكون بمقدار ضرب هذا العدد بنفسه، والدائرة أوسع إلا أن الواقع البعض، ولقد خلوت ليلة بليلى هذه الكلمة، وأوقدت مصباح ذلي في مشكاة حضرتها المكرمة، وفرشت لها سري، وضممتها سحرا إلى سحري ونحري.


فكان ما كان مما لست أذكره     فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر



التالي السابق


الخدمات العلمية