صفحة جزء
وأمطرنا عليهم مطرا أي نوعا من المطر عجيبا وقد بينه قوله سبحانه : وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل وفي الخازن أن تلك الحجارة كانت معجونة بالكبريت والنار وظاهر الآية أنه أمطر عليهم كلهم وجاء في بعض الآثار أنه خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذادهم حتى أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقفت له حجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه وفرق بين مطر وأمطر فعن أبي عبيدة أن الثلاثي في الرحمة والرباعي في العذاب ومثله عن الراغب وفي الصحاح عن أناس أن أمطرت السماء وأمطرت بمعنى وفي القاموس لا يقال أمطرهم الله تعالى إلا في العذاب وظاهر كلام الكشاف في الأنفال الترادف كما في الصحاح لكنه قال : وقد كثر الإمطار في معنى العذاب وذكر هنا أنه يقال : مطرتهم السماء وواد ممطور ويقال : أمطرت عليهم كذا أي أرسلته إرسال المطر وحاصل الفرق كما في الكشف ملاحظة معنى الإصابة في الأول والإرسال في الثاني ولهذا عدي بعلى وذكر ابن المنير أن مقصود الزمخشري الرد على من يقول : إن مطرت في الخير وأمطرت في الشر ويتوهم أنها تفرقة وضعية فبين أن أمطرت معناه أرسلت شيئا على نحو المطر وإن لم يكن إياه حتى لو أرسل الله تعالى من السماء أنواعا من الخير لجاز أن يقال فيه أمطرت السماء خيرا أي أرسلته إرسال المطر فليس للشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا فظن أن الواقع اتفاقا مقصود في الوضع وليس به . انتهى . ويعلم منه كما في الشهاب أن كلام أبي عبيدة وأضرابه مؤول وإن رد بقوله تعالى : عارض ممطرنا فإنه عنى به الرحمة ولا يخفى أنه لو قيل : إن التفرقة الاستعمالية إنما هي بين الفعلين دون متصرفاتهما لم يتأت هذا الرد إلا أن كلامهم غير صريح في ذلك ولعل البعض صرح بما يخالفه ثم إن مطرا إما مفعول به أو مفعول مطلق فانظر كيف كان عاقبة المجرمين أي مآل أولئك الكافرين المقترفين لتلك الفعلة الشنعاء وهذا خطاب لكل من يتأتى منه التأمل والنظر تعجبا من حالهم وتحذيرا من أفعالهم وقد مكث لوط عليه السلام فيهم على ما في بعض الآثار ثلاثين سنة يدعوهم إلى ما فيه صلاحهم فلم يجيبوه وكان إبراهيم عليه السلام يركب على حماره فيأتيهم وينصحهم فيأبون أن يقبلوا فكان يأتي بعد أن أيس منهم فينظر إلى سدوم ويقول سدوم أي يوم لك من الله تعالى سدوم حتى بلغ الكتاب أجله فكان ما قص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك .

ثم إن لوطا عليه السلام كما أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن الزهري لما عذب قومه لحق بإبراهيم عليه السلام فلم يزل معه حتى قبضه الله تعالى إليه وفي هذه الآيات دليل على أن اللواطة من أعظم الفواحش .

وجاء في خبر أخرجه البيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وصححه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لعن الله تعالى سبعة من خلقه فوق سبع سموات فردد لعنة على واحد منهم ثلاثا ولعن بعد كل واحد لعنة لعنة فقال : ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط الحديث وجاء أيضا أربعة يصبحون في غضب الله تعالى ويمسون في سخط الله تعالى وعد منهم من يأتي الرجل وأخرج ابن أبي الدنيا وغيره عن [ ص: 173 ] مجاهد رضي الله تعالى عنه أن الذي يعمل ذلك العمل لو اغتسل بكل قطرة من السماء وكل قطرة من الأرض لم يزل نجسا أي أن الماء لا يزيل عنه ذلك الإثم العظيم الذي بعده عن ربه والمقصود تهويل أمر تلك الفاحشة .

وألحق بها بعضهم السحاق وبدأ أيضا في قوم لوط عليه السلام فكانت المرأة تأتي المرأة فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه إنما حق القول على قوم لوط عليه السلام حين استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال .

وعن أبي حمزة رضي الله تعالى عنه قلت لمحمد بن علي عذب الله تعالى نساء قوم لوط بعمل رجالهم فقال : الله تعالى أعدل من ذلك استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء وآخرون إتيان المرأة في عجيزتها واستدل بما أخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال على المنبر : سلوني فقال ابن الكواء : تؤتى النساء في أعجازهن فقال كرم الله تعالى وجهه: سفلت سفل الله تعالى بك ألم تسمع قوله تعالى : أتأتون الفاحشة الآية ولا يخفى أن ذلك لا يتم إلا بطريق القياس وإلا فالفاحشة في الآية مبينة بما علمت نعم جاء في آثار كثيرة ما يدل على حرمة إتيان الزوجة في عجيزتها والمسألة كما تقدم خلافية والمعتمد فيها الحرمة .

ولا فرق في اللواطة بين أن تكون بمملوك أو تكون بغيره واختلفوا في كفر مستحل وطء الحائض ووطء الدبر وفي التتارخانية نقلا عن السراجية اللواطة بمملوكه أو مملوكته أو امرأته حرام إلا أنه لو استحله لا يكفر وهذا بخلاف اللواطة بأجنبي فإنه يكفر مستحلها قولا واحدا وما ذكر مما يعلم ولا يعلم كما في الشرنبلالية يتجرأ الفسقة عليه بظنهم حله .

واختلف في حد اللواطة فقال الإمام : لا حد بوطء الدبر مطلقا وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه والظاهر على ما قاله البيري أنه يقتل في المرة الثانية لصدق التكرار عليه وقال الإمامان : إن فعل في الأجانب حد كحد الزنا وإن في عبده أو أمته أو زوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حد إجماعا كما في الكافي وغيره بل يعزر في ذلك كله ويقتل من اعتاده وفي الحاوي القدسي وتكلموا في هذا التعزير من الجلد ورميه من أعلى موضع وحبسه في أنتن بقعة وغير ذلك سوى الإخصاء والجب والجلد أصح وفي الفتح يعزر ويسجن حتى يموت أو يتوب وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حد اللواطة القتل للفاعل والمفعول ورواه مرفوعا وفي رواية أخرى عنه أنه سئل ما حد اللوطي فقال : ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة قال في الفتح وكأن مأخذ هذا أن قوم لوط أهلكوا بذلك حيث حملت قراهم ونكست بهم ولا شك في إتباع الهدم بهم وهم نازلون وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه شيء بما قص الله تعالى في إهلاك قوم لوط عليه السلام بإمطار الحجارة عليهم وصححوا أنها لا تكون في الجنة لأنه سبحانه استقبحها وسماها فاحشة والجنة منزهة عن ذلك وفي الأشباه أن حرمتها عقلية فلا وجود لها في الجنة وقيل : سمعية فتوجد أي فيمكن أن توجد وكأنه أراد بالحرمة هنا القبح إطلاقا لاسم السبب على المسبب أي أن قبحها عقلي بمعنى أنه يدرك بالعقل وإن لم يرد به الشرع وليس هذا مذهب المعتزلة كما لا يخفى ونقل الجلال السيوطي عن ابن عقيل الحنبلي قال جرت هذه المسألة بين أبي علي بن الوليد المعتزلي وبين أبي يوسف القزويني فقال ابن الوليد : لا يمنع أن يجعل ذلك من جملة اللذات في الجنة لزوال المفسدة لأنه أنما منع في الدنيا لما فيه من قطع النسل وكونه محلا للأذى وليس في الجنة ذلك ولهذا أبيح شرب الخمر لما ليس فيه من السكر والعربدة [ ص: 174 ] وزوال العقل بل اللذة الصرفة فقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه الميل إلى الذكور عاهة وهو قبيح في نفسه لأنه محل لم يخلق للوطء ولهذا لم يبح في شريعة بخلاف الخمر فقال ابن الوليد هو قبيح وعاهة للتلويث بالأذى ولا أذى في الجنة فلم يبق إلا مجرد الالتذاذ . انتهى . وأنا أرى أن إنكار قبح اللواطة عقلا مكابرة ولهذا كانت الجاهلية تعير بها ويقولون في الذم فلان مصفر استه ولا أدري هل يرضى ابن الوليد لنفسه أن يؤتى في الجنة أم لا فإن رضي اليوم أن يؤتى غدا فغالب الظن أن الرجل مأبون أو قد ألف ذلك وإن لم يرض لزمه الإقرار بالقبح العقلي وإن ادعى أن عدم رضائه لأن الناس قد اعتادوا التعيير به وذلك مفقود في الجنة قلنا له يلزمك الرضا به في الدنيا إذا لم تعير ولم يطلع عليك أحد فإن التزمه فهو كما ترى ولا ينفعه ادعاء الفرق بين الفاعل والمفعول كما لا يخفى على الأحرار وصرحوا بأن حرمة اللواطة أشد من حرمة الزنا لقبحها عقلا وطبعا وشرعا والزنا ليس بحرام كذلك وتزول حرمته بتزويج وشراء بخلافها وعدم الحد عند الإمام لا لخفتها بل للتغليظ لأنه مطهر على قول كثير من العلماء وإن كان خلاف مذهبنا وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها ومنهم من يفعلها أخذا للثأر ولكن من أين ومنهم من يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول وذلك لأنهم نالوا الصدارة بأعجازهم نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة واعلم أن للواطة أحكاما أخر فقد قالوا إنه لا يجب بها المهر ولا العدة في النكاح الفاسد ولا في المأتي بها لشبهة ولا يحصل بها التحليل للزوج الأول ولا تثبت بها الرجعة ولا حرمة المصاهرة عند الأكثر ولا الكفارة في رمضان في رواية ولو قذف بها لا يحد ولا يلاعن خلافا لهما في المسألتين كما في البحر أخذا من المجتبى وفي الشرنبلالية عن السراج يكفي في الشهادة عليه عدلان لا أربعة خلافا لهما أيضا هذا ولم أقف للسادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم على ما هو من باب الإشارة في قصة قوم لوط عليه السلام وذكر بعضهم في قصة قوم صالح عليه السلام بعد الإيمان بالظاهر أن الناقة هي مركب النفس الإنسانية لصالح عليه السلام ونسبتها إليه سبحانه لكونها مأمورة بأمره عز وجل مختصة به في طاعته وقربه وما قيل إن الماء قسم بينها وبينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم إشارة إلى أن مشربهم من القوة العاقلة العملية ومشربه من القوة العاقلة النظرية وما روي أنها يوم شربها كانت تتفحج فيحلب منها اللبن حتى تملأ الأواني إشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر من علومه الكلية الفطرية العلوم النافعة للناقصين من علوم الأخلاق والشرائع وخروجها من الجبل خروجها من بدن صالح عليه السلام .

وقال آخرون إن الناقة كانت معجزة صالح عليه السلام وذلك أنهم سألوه أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر فخرجت فسقيت سر السر فأعطت بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ثم قال لهم ذروها ترتع في رياض القدس وحياض الأنس ولا تمسوها بسوء من مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة فيأخذكم عذاب أليم وهو عذاب الانقطاع عن الوصول إلى الحقيقة واذكروا إذ جعلكم خلفاء أي مستعدين للخلافة وبوأكم في الأرض أي أرض القلب تتخذون من سهولها وهي المعاملات بالصدق قصورا تسكنون فيها وتنحتون الجبال وهي جبال أطوار القلب بيوتا هي مقامات السائرين إلى الله تعالى .

قال الملأ الذين استكبروا وهي الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة للذين استضعفوا من أوصاف القلب والروح أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ليدعو إلى الأوصاف النورانية فعقروا الناقة بسكاكين [ ص: 175 ] المخالفة فأخذتهم الرجفة لضعف قلوبهم وعدم قوة علمهم فأصبحوا في دارهم جاثمين موتى لا حراك بهم إلى حضيرة القدس .

وذكر البعض أن الناقة والسقب صورتا الإيمان بالله تعالى والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام وقد ظهرا بالذات وبالواسطة من الحجر الذي تشبهه قلوب القوم وعقرهم الناقة من قبيل ذبح يحيى عليه السلام للموت الظاهر في الكبش يوم القيامة وفي ذلك دليل على أنهم أسوأ الناس استعدادا وأتمهم حرمانا ويدل على سوء حالهم أن الشيخ الأكبر قدس سره لم ينظمهم في فصوص الحكم في سلك قوم نوح عليه السلام حيث حكم لهم بالنجاة على الوجه الذي ذكره وكذا لم ينظم في ذلك السلك قوم لوط عليه السلام وكأن لمزيد جهلهم وبعدهم عن الحكمة وإتيانهم البيوت من غير أبوابها وقذارتهم ودناءة نفوسهم والذي عليه المتشرعون أن أولئك الأقوام كلهم حصب جهنم لا ناجي فيهم والله تعالى أحكم الحاكمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية