صفحة جزء
قالوا أرجه وأخاه أي: أخر أمرهما وأصدرهما عنك ولا تعجل في أمرهما حتى ترى رأيك فيهما، وقيل: احبسهما، واعترض بأنه لم يثبت منه الحبس.

وأجيب بأن الأمر به لا يوجب وقوعه، وقيل عليه أيضا: إنه لم يكن قادرا على الحبس بعد أن رأى ما رأى، وقوله: لأجعلنك من المسجونين في الشعراء كان قبل هذا، وأجيب بأن القائلين لعلهم لم يعلموا ذلك منه، وقال أبو منصور: الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر، وهو الهم بقتله، فقالوا: أخره ليتبين حاله للناس، وليس بلازم كما لا يخفى، وأصل أرجه أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مضمومة دون واو ثم [ ص: 22 ] حذفت الهمزة وسكنت الهاء لتشبيه المنفصل بالمتصل، وجعل أرجه كإبل في إسكان وسطه، وبذلك قرأ أبو عمرو، وأبو بكر، ويعقوب على أنه من أرجات، وكذلك قراءة ابن كثير وهشام وابن عامر: (أرجئهو) بهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو الإشباع.

وقرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي: (أرجهي) بهاء مكسورة بعدها ياء من أرجيت، وفي رواية قالون: (أن أرجه) بحذف الياء للاكتفاء عنها بالكسرة، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان (أرجئه) بالهمزة وكسر الهاء، وقد ذكر بعضهم أن ضم الهاء وكسرها والهمز وعدمه لغتان مشهورتان، وهل هما مادتان أو الياء بدل من الهمزة كتوضأت وتوضيت؟ قولان، وطعن في القراءة على رواية ابن ذكوان، فقال الحوفي: إنها ليست بجيدة، وقال الفارسي: إن ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز غيره وكسرها غلط؛ لأن الهاء لا تكسر إلا بعد ياء ساكنة أو كسرة، وأجيب كما قال الشهاب عنه بوجهين: أحدهما أن الهمزة ساكنة، والحرف الساكن حاجز غير حصين؛ فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة فلذا كسرت، والثاني أن الهمزة عرضة للتغيير كثيرا بالحذف وإبدالها ياء إذا سكنت بعد كسرة، فكأنها وليت ياء ساكنة فلذا كسرت. وأورد على ذلك أبو شامة أن الهمزة تعد حاجزا، وأن الهمزة لو كانت ياء كان المختار الضم نظرا لأصلها وليس بشيء بعد أن قالوا: إن القراءة متواترة وما ذكر لغة ثابتة عن العرب، هذا واستشكل الجمع بين ما هنا وما في الشعراء، فإن فيها: قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون وهو صريح في أن إن هذا لساحر إلى: فماذا تأمرون كلام فرعون، وما هنا صريح في نسبة قول ذلك للملأ والقصة واحدة فكيف يختلف القائل في الموضعين؟ وهل هذا إلا منافاة؟ وأجيب بأنه لا منافاة لاحتمالين: الأول أن هذا الكلام قاله فرعون والملأ من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر، فنقل في الشعراء كلامه وهنا كلامهم، والثاني أن هذا الكلام قاله فرعون ابتداء، ثم قاله الملأ إما بطريق الحكاية لأولادهم وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلام فرعون ابتداء، وما هنا كلام الملأ نقلا عنه.

واختار الزمخشري أن ما هنا هو قول الملأ نقلا عن فرعون بطريق التبليغ لا غير؛ لأن القوم لما سمعوه خاطبوا فرعون بقولهم: أرجه إلخ، ولو كان ذلك كلام الملأ ابتداء لكان المطابق أن يجيبوهم بأرجئوا، ولا سبيل إلى أنه كان نقلا بطريق الحكاية؛ لأنه حينئذ لم يكن مؤامرة ومشاورة مع القوم فلم يتجه جوابهم أصلا، فتعين أن يكون بطريق التبليغ؛ فلذا خاطبوه بالجواب. بقي أن يقال: هذا الجواب بالتأخير في الشعراء كلام الملأ لفرعون، وهاهنا كلام سائر القوم، لكن لا منافاة لجواز تطابق الجوابين. وقول شيخ الإسلام: إن كون ذلك جواب العامة يأباه أن الخطاب لفرعون، وأن المشاورة ليست من وظائفهم ليس بشيء، لأن الأمر العظيم الذي تصيب تبعته أهل البلد يشاور فيه الملك الحازم عوامهم وخواصهم، وقد يجمعهم لذلك ويقول لهم: ماذا ترون فهذا أمر لا يصيبني وحدي ورب رأي حسن عند من لم يظن به. على أن في ذلك جمعا لقلوبهم عليه وعلى الاحتفال بشأنه، وقد شاهدنا أن الحوادث العظام يلتفت فيها إلى العوام، وأمر موسى عليه السلام كان من أعظم الحوادث عند فرعون بعد أن شاهد منه ما شاهده، ثم أنهم اختلفوا في قوله تعالى: فماذا تأمرون فقيل: إنه من تتمة كلام الملأ، واستظهره غير واحد؛ لأنه مسوق مع كلامهم من غير فاصل، فالأنسب أن يكون من بقية كلامهم، وقال الفراء، والجبائي: إن كلام الملأ قد تم عند قوله سبحانه: يريد أن يخرجكم من أرضكم [ ص: 23 ] ثم قال فرعون: فماذا تأمرون؟ قالوا: أرجه، وحينئذ يحتمل كما قال القطب أن يكون كلام الملأ مع فرعون وخطاب الجمع في يخرجكم إما لتفخيم شأنه أو لاعتباره مع خدمه وأعوانه. ويحتمل أن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه. ثم قال: وإنما التزموا هذا التعسف ليكون مطابقا لما في الشعراء في أن قوله: فماذا تأمرون من كلام فرعون، وقوله: أرجه وأخاه كلام الملأ. لكن ما ارتفعت المخالفة بالمرة؛ لأن قوله: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم كلام فرعون للملأ. وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملأ لفرعون، ولعلهم يحملون على أنه قاله لهم مرة وقالوه له أخرى انتهى.

ويمكن أن يقال: إن الملأ لما رأوا من موسى عليه السلام ما رأوا قال بعضهم لبعض: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تشيرون وما تستحسنون في أمره؟ ولما رآهم فرعون أنهم مهتمون من ذلك قال لهم تنشيطا لهم وتصويبا لما هم عليه قبل أن يجيب بعضهم بعضا بما عنده مثل ما قالوه فيما بينهم فالتفتوا إليه وقالوا: أرجه وأخاه، فحكى سبحانه هنا مشاورة بعضهم لبعض وعرض ما عندهم على فرعون أول وهلة قبل ذكره فيما بينهم، وحكى في الشعراء كلامه لهم ومشاورته إياهم التي هي طبق مشاورة بعضهم بعضا المحكية هنا وجوابهم له بعد تلك المشاورة، وعلى هذا لا يدخل العوام في الشورى، ويكون هاهنا أبلغ في ذم الملأ فليتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.

وأرسل في المدائن أي البلاد؛ جمع مدينة، وهي من مدن بالمكان كنصر إذا أقام به، ولكون الياء زائدة كما قال غير واحد تقلب همزة في الجمع، وأريد بها مطلق المدائن، وقيل: مدائن صعيد مصر. حاشرين أي: رجالا يجمعون السحرة، وفسره بعضهم بالشرط وهم أعوان الولاة؛ لأنهم يجعلون لهم علامة، ويقال للواحد شرطي بسكون الراء نسبة للشرطة، وحكى في القاموس فتحها أيضا، وفي الأساس أنه خطأ؛ لأنه نسبة إلى الشرط الذي هو جمع، ونصب الوصف على أنه صفة المحذوف ومفعوله محذوف أيضا كما أشير إليه، وقد نص على ذلك الأجهوري

التالي السابق


الخدمات العلمية