صفحة جزء
سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض استئناف مسوق على ما قال شيخ الإسلام لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات التي كتبت في ألواح التوراة المتضمنة للمواعظ والأحكام أو ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما وعدوا إراءته من دار الفاسقين، ومعنى صرفهم عنها منعهم بالطبع على قلوبهم فلا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله سبحانه: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم أي: سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون أن لهم ارتفاعا في العالم السفلي ومزية على الخلق فلا ينتفعون بآياتي ولا يغتنمون مغانم آثارها فلا تسلكوا مسلكهم فتكونوا [ ص: 61 ] أمثالهم. وقيل: هو جواب سؤال مقدر ناشئ من الوعد بإدخال أرض الجبابرة والعمالقة على أن المراد بالآيات ما تلي آنفا ونظائره وبالصرف عنها إزالة المتكبرين عن مقام معارضتها وممانعتها لوقوع أخبارها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى أو يوشع عليهما السلام، كأنه قيل: كيف ترى دارهم وهم فيها؟ فقيل لهم: سأهلكهم، وإنما عدل إلى الصرف ليزدادوا ثقة بالآيات واطمئنانا بها، وعلى هذين القولين يكون الكلام مع موسى عليه السلام، والآية متعلقة إما بقوله سبحانه: سأريكم وإما بما تقدمه على الوجه الذي أشير إليه آنفا، وجوز الطيبي كونها متصلة بقوله تعالى: ( وأمر ) إلخ. على معنى الأمر كذلك، وأما الإرادة فإني سأصرف عن الأخذ بآياتي أهل الطبع والشقاوة، وقيل: الكلام مع كافري مكة والآية متصلة بقوله عز شأنه: أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها الآية، وإيراد قصة موسى عليه السلام وفرعون للاعتبار، أي: سأصرف المتكبرين عن إبطال الآيات وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه فعله بعكس ما أراد، وقيل: إن الآية على تقدير كون الكلام مع قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اعتراض في خلال ما سيق للاعتبار ومن حق من ساق قصة له أن ينبه على مكانه كلما وجد فرصة التمكن منه، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع أن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل، واحتج بالآية بعض أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وهو ظاهر على تقدير أن يراد بالصرف المنع عن الإيمان وليس بمتعين كما علمت، وقد خاض المعتزلة في تأويلها فأولوها بوجوه ذكرها الطبرسي. بغير الحق إما صلة للتكبر على معنى يتكبرون ويتعززون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل وظلمهم المفرط أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله، أي: يتكبرون ملتبسين بغير الحق ومآله، يتكبرون غير محقين لأن التكبر بحق ليس إلا لله تعالى كما في الحديث القدسي الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار».

وقيل: المراد أنهم يتكبرون على من لا يتكبر كالأنبياء عليهم السلام؛ لأنه الذي يكون بغير حق، وأما التكبر على المتكبر صدقة، وأنت تعلم أن هذا صورة تكبر لا تكبر حقيقة فلعل مراد هذا القائل: إن التقييد بما ذكر لإظهار أنهم يتكبرون حقيقة.

وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها عطف على يتكبرون داخل معه في حكم الصلة، والمراد بالآية إما المنزلة فالمراد برؤيتها مشاهدتها والإحساس بها بسماعها أو ما يعمها وغيرها من المعجزات، فالمراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار، وفسر بعضهم الآيات فيما تقدم بالمنصوبة في الآفاق والأنفس، والآية هنا بالمنزلة أو المعجزة لئلا يتوهم الدور على ما قيل فليفهم، وجوز أن يكون عطفا على: سأصرف للتعليل على منوال قوله سبحانه: ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله على رأي صاحب المفتاح، وأيا ما كان فالمراد عموم النفي لا نفي العموم: أي: كفروا بكل أية آية. وإن يروا سبيل الرشد أي: طريق الهدى والسداد. لا يتخذوه سبيلا أي: لا يتوجهون إليه ولا يسلكونه أصلا لاستيلاء الشيطنة عليهم.

وقرأ حمزة والكسائي: (الرشد) بفتحتين، وقرئ: (الرشاد) وثلاثها لغات والسقم والسقم والسقام، وفرق [ ص: 62 ] أبو عمرو كما قال الجبائي بين الرشد والرشد بأن الرشد بالضم الصلاح في الأمر، والرشد بالفتح الاستقامة في الدين، والمشهور عدم الفرق. وإن يروا سبيل الغي أي: طريق الضلال. يتخذوه سبيلا أي: يختارونه لأنفسهم مسلكا مستمرا لا يكادون يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم وإفضائه بهم إلى شهواتهم. ذلك أي: المذكور من التكبر وعدم الإيمان بشيء من الآيات وإعراضهم عن سبيل الهدى وإقبالهم التام إلى سبيل الضلال حاصل؛ بأنهم أي: بسبب أنهم كذبوا بآياتنا الدالة على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادها. وكانوا عنها غافلين غير معتدين بها؛ فلا يتكفرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل، وجوز غير واحد أن يكون ذلك إشارة إلى الصرف، وما فيه البحث يدفع بأدنى عناية كما لا يخفى على من مدت إليه العناية أسبابها، وأيا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عنه كما أشرنا إليه.

وقيل: محل اسم الإشارة النصب على المصدر أي: سأصرفهم ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها، ولا مانع من كون العامل أصرف المقدم لأن الفاصل ليس بأجنبي.

التالي السابق


الخدمات العلمية