صفحة جزء
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم مقدر بمضمر خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق التلوين على ما قيل ، ويجوز أن يكون المضمر [ ص: 15 ] مخاطبا به المؤمنون والعطف على لا تكونوا ، أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وغيرها بأن وسوس إليهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم أي ألقى في روعهم وخيل لهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم وحافظ عن السوء حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين ، فالقول مجاز عن الوسوسة ، والإسناد في ( إني جار ) من قبيل الإسناد إلى السبب الداعي و ( لكم ) خبر ( لا ) أو صفة ( غالب ) والخبر محذوف ، أي لا غالب كائنا لكم موجود و ( اليوم ) معمول الخبر ولا يجوز تعلق الجار بـ ( غالب ) وإلا لانتصب لشبهه بالمضاف حينئذ ، وأجاز البغداديون الفتح وعليه يصح تعلقه به ، و ( من الناس ) حال من ضمير الخبر لا من المستتر في ( غالب ) لما ذكرنا ، وجملة ( إني جار ) تحتمل العطف والحالية فلما تراءت الفئتان أي تلاقى الفريقان وكثيرا ما يكنى بالترائي عن التلاقي وإنما أول بذلك لمكان قوله تعالى : نكص على عقبيه أي : رجع القهقرى فإن النكوص كان عند التلاقي لا عند الترائي ، والتزام كونه عنده فيه خفاء ، والجار والمجرور في موضع الحال المؤكدة أو المؤسسة إن فسر النكوص بمطلق الرجوع ، وأيا ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية ، شبه بطلان كيده بعد تزيينه بمن رجع القهقرى عما يخافه كأنه قيل : لما تلاقتا بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم .

وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله تبرأ منهم إما بتركهم أو بترك الوسوسة لهم التي كان يفعلها أولا وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة عليهم السلام ، وإنما لم نقل خاف على نفسه لأن الوسوسة بخوفه عليهم أقرب إلى القبول بل يبعد وسوسته إليهم بخوفه على نفسه ، وقيل : إنه لا يخاف على نفسه لأنه من المنظرين وليس بشيء .

وقد يقال : المقصود من هذا الكلام أنه عظم عليهم الأمر وأخذ يخوفهم بعد أن كان يحرضهم ويشجعهم كأنه قال : يا قوم الأمر عظيم والخطب جسيم وإني تارككم لذلك وخائف على نفسي الوقوع في مهاوي المهالك مع أني أقدر منكم على الفرار وعلى مراحل هذه القفار ، وحينئذ لا يبعد أن يراد من الخوف الخوف على نفسه حيث لم يكن هناك قول حقيقة ، وقال غير واحد من المفسرين : إنه لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينها وبين كنانة من الإحنة والحرب، فكاد ذلك يثبطهم فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وكان من أشراف كنانة فقال لهم: لا غالب لكم اليوم وإني جار لكم من بني كنانة وحافظكم ومانع عنكم فلا يصل إليكم مكروه منهم، فلما رأى الملائكة تنزل من السماء نكص وكانت يده في يد الحارث بن هشام فقال له : إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال له : إني أرى ما لا ترون، فقال : والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس، فلما قدموا مكة قالوا : هزم الناس سراقة فبلغه الخبر فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان ، وروي هذا عن ابن عباس ، والكلبي ، والسدي ، وغيرهم ، وعليه يحتمل أن يكون معنى قوله : إني أخاف الله إني أخاف أن يصيبني بمكروه من الملائكة أو يهلكني ، ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله ، وفي " الموطأ " ما رئي الشيطان يوما هو أصغر فيه ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رئي يوم بدر فإنه قد رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة عليهم السلام ، وما في كتاب " التيجان " من أن إبليس قتل ذلك اليوم مخرج على هذا وإلا فهو تاج سلطان الكذب ، [ ص: 16 ] وروي الأول عن الحسن واختاره البلخي ، والجاحظ ، وقوله سبحانه : والله شديد العقاب يحتمل أن يكون من كلام اللعين وأن يكون مستأنفا من جهته سبحانه وتعالى ، وادعى بعضهم أن الأول هو الظاهر إذ على احتمال كونه مستأنفا يكون تقريرا لمعذرته ولا يقتضيه المقام فيكون فضلة من الكلام ، وتعقب بأنه بيان لسبب خوفه حيث إنه يعلم ذلك فافهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية