صفحة جزء
لا تعتذروا أي لا تشتغلوا بالاعتذار وتستمروا عليه، فليس النهي عن أصله لأنه قد وقع ، وإنما نهوا عن ذلك لأن ما يزعمونه معلوم الكذب بين البطلان والاعتذار قيل : إنه عبارة عن محو أثر الذنب من قولهم : اعتذرت المنازل إذا درست لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه واندراسه .

وقيل هو القطع، ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تعذر أي تقطع وللبكارة عذرة لأنها تقطع بالافتراع ، ويقال : اعتذرت المياه إذا انقطعت فالعذر لما كان سببا لقطع اللوم سمي عذرا ، والقولان منقولان عن أهل اللغة وهما على ما قال الواحدي متقاربان قد كفرتم أي أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن فيه بعد إيمانكم أي : إظهاركم الإيمان وهذا وما قبله لأن القوم منافقون فأصل الكفر في باطنهم ولا إيمان في نفس الأمر لهم .

واستدل بعضهم بالآية على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء ولا خلاف بين الأئمة في ذلك إن نعف عن طائفة منكم لتوبتهم وإخلاصهم على أن الخطاب لجميع المنافقين أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء على أن الخطاب للمؤذين والمستهزئين منهم ، والعفو في ذلك عن عقوبة الدنيا العاجلة نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين أي : مصرين على النفاق وهم غير التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين .

أخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال من خبر فيه طول : كان الذي عفي عنه مخشي بن حمير الأشجعي فتسمى عبد الرحمن وسأل الله تعالى أن يقتل شهيدا لا يعلم مقتله، فقتل يوم اليمامة فلم يعلم مقتله ولا قاتله ولم ير له عين ولا أثر .

وفي بعض الروايات أنه لما نزلت هذه الآية تاب عن نفاقه وقال : اللهم إني لا أزال أسمع آية تقشعر منها [ ص: 132 ] الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة واستجيب دعاؤه رضي الله تعالى عنه ، ومن هنا قال مجاهد : إن الطائفة تطلق على الواحد إلا الألف ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الطائفة الواحد والنفر ، وقرئ ( يعف ) و ( يعذب ) بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله تعالى ، وقرئ ( إن تعف ) و ( يعذب ) بالتاء والبناء للمفعول ، واستشكلت هذه القراءة بأن الفعل الأول مسند فيها إلى الجار والمجرور، ومثله يلزم تذكيره ولا يجوز تأنيثه إذا كان المجرور مؤنثا، فيقال: سير على الدابة ولا يقال سيرت عليها ، وأجيب بأن ذلك من الميل مع المعنى والرعاية له، فلذا أنث لتأنيث المجرور إذ معنى ( تعف عن طائفة ) ترحم طائفة وهو من غرائب العربية ، وقيل : لو قيل بالمشاكلة لم يبعد ، وقيل : إن نائب الفاعل ضمير الذنوب، والتقدير: إن تعف هي أي الذنوب ، ومن الناس من استشكل الشرطية من حيث هي بأنه كيف يصح أن يكون ( نعذب طائفة ) جوابا للشرط السابق ومن شرط الشرط، والجزاء الاتصال بطريق السببية أو اللزوم في الجملة، وكلاهما مفقود في الجملة ، وقد ذكر ذلك العز بن عبد السلام في أماليه ونقله عنه العلامة ابن حجر في ذيل الفتاوي وذكر أنه لم ير أحدا نبه على الجواب عنه لكنه يعلم من سبب النزول ، وتكلم بعد أن ساق الخبر بما لا يخلو عن غموض ، ولقد ذكرت السؤال وأنا في عنفوان الشباب مع جوابه للعلامة المذكور لدى شيخ من أهل العلم قد حلب الدهر أشطره وطلبت منه حل ذلك فأعرض عن تقرير الجواب الذي في الذيل، وأظن أن ذلك لجهله به، وشمر الذيل وكشف عن ساق للجواب من تلقاء نفسه فقال : إن الشرطية اتفاقية نحو قولك : إن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق، وشرع في تقرير ذلك بما تضحك منه الثكلى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وأجاب مولانا سري الدين : بأن الجزاء محذوف مسبب عن المذكور أي فلا ينبغي أن يفتروا أو فلا يفتروا فلا بد من تعذيب طائفة ، ثم قال : فإن قيل هذا التقدير لا يفيد سببية مضمون الشرط لمضمون الجزاء ، قلت : يحمل على سببيته للإخبار بمضمون الجزاء أو سببيته للأمر بعدم الاغترار قياسا على الأخبار ، وقد حقق الكلام في ذلك العلامة التفتازاني عند قوله تعالى : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) من سورة البقرة في حاشية الكشاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية