صفحة جزء
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله شروع في بيان حالهم من القرآن إثر بيان حالهم مع الأدلة المندرجة في تضاعيفه أو استئناف لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه غب المنع مع اتباع الظن وقيل: إنه متعلق بما قصه الله تعالى من قولهم: ائت بقرآن غير هذا وقيل: بقوله سبحانه: ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه إلخ ولا يخفى ما في ذلك من البعد (وكان) هنا ناقصة عند كثير من الكاملين (وهذا) اسمها (والقرآن) نعت له أو عطف بيان (وأن يفترى) بتأويل المصدر أي افتراء خبر (كان) وهو في تأويل المفعول أي مفترى كما ذكره ابن هشام في قاعدة أن اللفظ قد يكون على تقدير وذلك المقدر على تقدير آخر ومنه قوله


لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى



وذهب بعض المعربين أن (ما كان) بمعنى ما صح وإن في الكلام لاما مقدرة لتأكيد النفي والأصل ما كان هذا القرآن لأن يفترى كقوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة (وأن يفترى) خبر كان (ومن دون الله) خبر ثان وهو بيان للأول أي ما صح ولا استقام أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الهدايات المستوجبة للاتباع التي من جملتها هاتيك الحجج البينة الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك صادرا من غير الله تعالى كيف كان وقيل عليه ما قيل لكنه لا ينبغي العدول عما قاله في محل من دون الله وما ذكر في حاصل المعنى أمر مقبول كما لا يخفى وجوز البدر [ ص: 117 ] الدماميني أن تكون (كان) تامة (وأن يفترى) بدل اشتمال من (هذا القرآن) وتعقب بأنه لا يحسن قطعا لأن ما وجد القرآن يوهم من أول الأمر نفي وجوده وأيضا لا بد من الملابسة بين البدل والمبدل منه في بدل الاشتمال فيلزم أن يبتنى الكلام على الملابسة بين القرآن العظيم والافتراء وفي التزام كل ما ترى وأجيب عن ذلك بما لا أراه مثبتا للحسن أصلا واقتصر بعضهم على اعتبار المصدر من غير تأويله باسم المفعول اعتبارا للمبالغة على حد ما قيل في زيد عدل والظاهر عندي أن المبالغة حينئذ راجعة إلى النفي نظير ما قيل في قوله تعالى: وما ربك بظلام للعبيد لا أن النفي راجع إلى المبالغة كما لا يخفى ومن هنا يعلم ما في قول بعض المحققين: إن قول الزمخشري في بيان معنى الآية: وما يصح وما استقام وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى ربما يشعر بأنه على حذف اللام إذ مجرد توسيط - كان - لا يفيد ذلك والتعبير بالمصدر لا تعلق له بتأكيد معنى النفي من النظر ثم إنهم فيما رأينا لم يعتبروا المصدر هنا إلا نكرة والمشهور اتفاق النحاة على أن أن والفعل المؤول بالمصدر معرفة ولذلك لا يخبر به عن النكرة وكأنه مبني على ما قاله ابن جني في الخاطريات من أنه يكون نكرة وذكر أنه عرضه على أبي علي فارتضاه واستشكل بعضهم هذه الآية بأن أن تخلص المضارع للاستقبال كما نص على ذلك النحويون والمشركون إنما زعموا كون القرآن مفترى في الزمان الماضي كما يدل عليه ما يأتي إن شاء الله تعالى فكيف ينبغي كونه مفترى في الزمان المستقبل وأجيب عنه بأن الفعل فيها مستعمل في مطلق الزمان وقد نص على جواز ذلك في الفعل ابن الحاحب وغيره ونقله البدر الدماميني في شرحه لمغني اللبيب ولعل ذلك من باب المجاز وحينئذ يمكن أن يكون نكتة العدول عن المصدر الصريح مع أنه المستعمل في كلامهم عند عدم ملاحظة أحد الأزمنة نحو أعجبني قيامك أن المجاز أبلغ من الحقيقة وقيل: لعل النكتة في ذلك استقامة الحمل بدون تأويل للفرق بين المصدر الصريح والمؤول على ما أشار إليه شارح اللباب وغيره ولا يخفى أن فيه مخالفة لما مرت الإشارة إليه من أن أن والفعل في تأويل المصدر وهو في تأويل المفعول

قيل: وقد يجاب أيضا عن أصل الإشكال بأنه إنما نفى في الماضي إمكان تعلق الافتراء به في المستقبل وكونه محلا لذلك فينتفي تعلق الافتراء به بالفعل من باب أولى وفي ذلك سلوك طريق البرهان فيكون في الكلام مجاز أصلي أو تبعي وقد نص أبو البقاء على جواز كون الخبر محذوفا وأن التقدير وما كان هذا القرآن ممكنا أن يفترى وقال العلامة ابن حجر: إن الآية جواب عن قولهم: ائت بقرآن غير هذا أو بدله وهو طلب للافتراء في المستقبل وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام افتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية زعمهم ذلك فلا إشكال على أن عموم تخليص أن المضارع للاستقبال في حيز المنع لم لا يجوز أن يكون ذلك فيما عدا خبر كان المنفية كما يرشد إليه قوله سبحانه: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين فإنه نزل عن استغفار سبق منهم للمشركين كما قاله أئمة التفسير وقد أطال الكلام على ذلك في ذيل فتاويه فتبصر

ولكن تصديق الذي بين يديه أي من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل فالمراد من الموصول الجنس وعنى بالتصديق بيان الصدق وهو مطابقة الواقع وإظهاره وإضافته إما لفاعله أو مفعوله وتصديق الكتب له بأن ما فيه من العقائد الحقة مطابق لما فيها وهي مسلمة عند أهل الكتاب وما عداهم إن اعترف بها وإلا فلا عبرة به .

[ ص: 118 ] وفي جعل الإضافة للمفعول مبالغة في نفي الافتراء عنه لأن ما يثبت ويظهر به صدق غيره فهو أولى بالصدق ووجه كونه مصدقا لها أنه دال على نزولها من عند الله تعالى ومشتمل على قصص الأولين حسبما ذكر فيها وهو معجز دونها فهو الصالح لأن يكون حجة وبرهانا لغيره لا بالعكس وزعم بعضهم أن المراد من الذي بين يديه أخبار الغيوب والإضافة للفاعل وتصديقها له مجيئها على وفق ما أخبر به وليس بشيء ونصب التصديق على العطف على خبر - كان – أو على أنه خبر لكان مقدرة وقيل: على أنه مفعول لأجله لفعل مقدر أي أنزل لتصديق ذلك وجعل العلة هنا ما ذكر مع أنه أنزل الأمور لأنه المناسب لمقام رد دعوى افترائه وقيل: نصب على المصدرية لفعل مقدر أي يصدق تصديق إلخ وقرأ عيسى بن عمرو الثقفي برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديق إلخ وكذا قرأ بالرفع في قوله تعالى: (وتفصيل الكتاب) أي ما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع والعطف نصبا أو رفعا على (تصديق) وقوله سبحانه: لا ريب فيه خبر آخر للكن أو للمبتدأ المقدر وفصل لأنه جملة مؤكدة لما قبلها وجوز أن يكون حالا من الكتاب وإن كان مضافا إليه فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافا نحويا لا محل له من الإعراب أو بيانيا جوابا بالسؤال عن حال الكتاب والأول أظهر والمعنى لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه وعلو شأنه من رب العالمين 37 خبر آخر لكان أو المبتدأ المقدر كما مر في سابقه أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب و (لا ريب فيه) اعتراض لئلا يلزم الفصل بالأجنبي بين المتعلق والمتعلق أو الحال وذيها وجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في (فيه)

التالي السابق


الخدمات العلمية