صفحة جزء
قال بل سولت لكم أنفسكم أي زينت وسهلت أمرا من الأمور منكرا لا يوصف ولا يعرف، وأصل التسويل تقدير شيء في النفس مع الطمع في إتمامه.

وقال الراغب: هو تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن.

وقال الأزهري: كأن التسويل تفعيل من سوال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره، وأصله مهموز، وقيل: من السول بفتحتين وهو استرخاء في العصب ونحوه كأن المسول لمزيد حرصه استرخى عصبه، وفي الكلام حذف على ما في البحر أي لم يأكله الذئب بل سولت إلخ، وعلمه عليه السلام بكذبهم قيل: حصل من سلامة القميص عن التمزيق وهي إحدى ثلاث آيات في القميص: ثانيتها عود يعقوب بصيرا بإلقائه على وجهه، وثالثتها قده من دبر فإنه كان دليلا على براءة يوسف، وينضم إلى ذلك وقوفه بالرؤيا الدالة على بلوغه مرتبة علياء تنحط عنها الكواكب، وقيل: من تناقضهم فإنه يروى أنه عليه السلام لما قال: ما تقدم عن قتادة قال بعضهم: بل قتله اللصوص، فقال: كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله؟! ولعله مع هذا العلم إنما حزن عليه السلام لما خشي عليه من المكروه والشدائد غير الموت، وقيل: إنما حزن لفراقه وفراق الأحبة مما لا يطاق، ولذلك قيل:


لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت لها المنايا إلى أرواحنا سبلا

ولا بأس بأن يقال: إنه أحزنه فراقه وخوف أن يناله مكروه فصبر جميل أي فأمري صبر جميل، أو فصبري صبر جميل كما قال قطرب، أو فالذي أفعله ذلك كما قال الخليل، أو فهو صبر إلخ، كما قال الفراء، وصبر في كل ذلك خبر مبتدأ محذوف، أو فصبر جميل أمثل وأجمل على أنه مبتدأ خبره محذوف، وهل الحذف في مثل ذلك واجب أو جائز؟ فيه خلاف، وكذا اختلفوا فيما إذا صح في كلام واحد اعتبار حذف المبتدأ وإبقاء الخبر واعتبار العكس هل الاعتبار الأول أولى أم الثاني؟.

وقرأ أبي والأشهب، وعيسى بن عمر -فصبرا جميلا- بنصبهما، وكذا في مصحف أنس بن مالك، وروي ذلك عن الكسائي، وخرج على أن التقدير فاصبر صبرا على أن اصبر مضارع مسند لضمير المتكلم، وتعقب بأنه لا يحسن النصب في مثل ذلك إلا مع الأمر، والتزم بعضهم تقديره هنا بأن يكون عليه السلام قد رجع إلى مخاطبة نفسه فقال: صبرا جميلا على معنى فاصبري يا نفس صبرا جميلا، والصبر الجميل على ما روى الحسن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم -ما لا شكوى فيه أي إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوب عليه السلام: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقيل: إنه عليه السلام سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فسئل عن سبب ذلك، فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه أتشكو إلى غيري، فقال: يا رب خطيئة فاغفرها.

وقيل: المراد من قوله: فصبر جميل أنى أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس [ ص: 202 ] الجبين بل أبقى على ما كنت عليه معكم وهو خلاف الظاهر جدا والله المستعان أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السلام للاستعانة المستمرة على ما تصفون متعلق بالمستعان والوصف ذكر الشيء بنعمته وهو قد يكون صدقا وقد يكون كذبا، والمراد به هنا الثاني كما في قوله سبحانه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون بل قيل: إن الصيغة قد غلبت في ذلك ومعنى استعانته عليه السلام بالله تعالى على كذبهم طلبه منه سبحانه إظهار كونه كذبا بسلامة يوسف عليه السلام والاجتماع معه فيكون ذكر الاستعانة هنا نظير عسى الله أن يأتيني بهم جميعا بعد قوله فيما بعد: فصبر جميل)، وفي بعض الآثار أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت يوم الإفك: والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل، وقيل: المراد إنه تعالى المستعان على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف كأنه عليه السلام بعد أن قال: صبر جميل طلب الإعانة منه تعالى على الصبر وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية الصبر الجميل فكأنه وقعت المحاربة بين الصفتين فما لم تحصل المعونة منه جل وعلا لا تحصل الغلبة، فقوله: (فصبر جميل) يجري مجرى إياك نعبد ، والله المستعان على ما تصفون يجري مجرى وإياك نستعين ولعل الأول أسلم من القال والقيل، وللإمام الرازي عليه الرحمة في هذا المقام بحث، وهو: أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب، وأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير، فكان اللائق بيعقوب عليه السلام التفتيش والسعي في تخليص يوسف عليه السلام من البلية والشدة إن كان حيا، وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه بل قد يقال: إن الواجب المتعين عليه السعي في طلبه وتخليصه؛ لأن الظاهر أنه كان عالما بأنه حي سليم لقوله: وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث فإن الظاهر أنه إنما قاله عن وحي، وأيضا إنه عليه السلام كان عظيم القدر جليل الشأن معظما في النفوس مشهورا في الآفاق فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في تركه عليه السلام الفحص مع نهاية رغبته في حضور يوسف وغاية محبته له، وهل الصبر في هذا المقام إلا مذموم عقلا وشرعا؟ ثم قال: والجواب أن نقول: لا جواب عن ذلك إلا أن يقال: إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة وتغليظا للأمر، وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص، وأنه لو بالغ في البحث ربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضا لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة، وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك ستر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس، وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم يحترق على الولد الذي ينتقم منه، ونظير ذلك ما أشار إليه الشاعر بقوله:


قومي هم قتلوا أميم أخي     فإذا رميت يصيبني سهمي


ولئن عفوت لأعفون جللا     ولئن سطوت لموهن عظمي

فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى لا سيما إن قلنا: إنه عليه السلام كان عالما بأن ما وقع لا يمكن تلافيه حتى يبلغ الكتاب أجله [ ص: 203 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية