صفحة جزء
وتقدم ذكر الآيات ناصر ضعيف لأن الآيات في الموضعين مختلفة الدلالة ولأن المناسب حينئذ تأخره عن قوله تعالى : وهو الذي مد .. إلخ على أن سوق تلك الصفات أعني رفع السماوات وما تلاه للغرض المذكور وسوق مقابلاتها لغرض آخر منافر وفي الأول روعي لطيفة في تعقيب الأوائل بقوله سبحانه : ( يدبر ، يفصل ) للإيقان والثواني بقوله تعالى : إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون أي من فضل السوابق لإفادتها اليقين واللواحق ذرائع إلى حصوله لأن الفكر آلته والإشارة إلى تقديم الثواني بالنسبة إلينا مع التأخر رتبة وذلك فائت على الوجه الآخر . اهـ . وهو من الحسن بمكان فيما أرى ولا تنافي كما قال الشهاب بين الوجهين باعتبار أن الوصفية تقتضي المعلومية والخبرية تقتضي خلافها لأن المعلومية عليهما والمقصود بالإفادة قوله تعالى : لعلكم بلقاء ربكم توقنون . (2) . أي لكم تتفكروا وتحققوا كمال قدرته سبحانه فتعلموا أن من قدر على ذلك قدر على الإعادة والجزاء وحاصله أنه سبحانه فعل كل ذلك لذلك وعلى الوجه الآخر فعل الأخيرين لذلك مع أن الكل له ثم قال : وهذا مما يرجح الوجه الأول أيضا كما يرجحه أنه ذكر تبيين الآيات وهي الرفع وما تلاه فإنه ذكرها ليستدل بها على قدرته تعالى وعلمه ولا يستدل بها إلا إذا كانت معلومة فيقتضي كونها صفة .

فإن قيل : لا بد في الصلة أن تكون معلومة سواء كانت صفة أو خبرا يقال : إذا كان ذلك صلة دل على انتساب الآيات إلى الله تعالى وإذا كان خبرا دل على انتسابها إلى موجود مبهم وهو غير كاف في الاستدلال فتأمل وقرأ النخعي وأبو رزين وأبان بن تغلب عن قتادة ( ندبر ، نفصل ) بالنون فيهما وكذا روى أبو عمرو الداني عن الحسن ووافق في ( نفصل ) بالنون الخفاف وعبد الوهاب عن أبي عمرو وهبيرة عن حفص وقال صاحب اللوامح : جاء عن الحسن والأعمش ( نفصل ) بالنون وقال المهدوي : لم يختلف في ( يدبر ) وليس كما قال لما سمعت ثم إنه تعالى لما ذكر من الشواهد العلوية ما ذكر أردفها بذكر الدلائل السفلية فقال عز شأنه : وهو الذي مد الأرض أي بسطها طولا وعرضا قال الأصم : البسط المد إلى ما لا يرى منتهاه ففيه دلالة على بعد مداها وسعة أقطارها وقيل : كانت مجتمعة فدحاها من مكة من تحت البيت وقيل : كانت مجتمعة عند بيت المقدس فدحاها وقال سبحانه لها : اذهبي كذا وكذا وهو المراد بالمد ولا يخفى أنه خلاف ما يقتضيه المقام واستدل بالآية على أنها مسطحة غير كرية والفلاسفة مختلفون في ذلك فذهب فريق منهم إلى أنها ليست كرية وهؤلاء طائفتان فواحدة تقول : إنها محدبة من فوق مسطحة من أسفل فهي كقدح كب على وجه الماء وأخرى تقول بعكس ذلك وذهب الأكثرون منهم إلى أنها كرية أما في الطول فلأن البلاد المتوافقة في العرض أو التي لا عرض لها كلما كانت أقرب إلى الغرب كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متأخرا بنسبة واحدة ولا يعقل ذلك إلا في الكرة وأما في العرض فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعا عليه بحسب إيغاله فيه على نسبة واحدة بحيث يراه قريبا من سمت رأسه وكذلك تظهر له الكواكب الشمالية وتخفى عنه الكواكب الجنوبية والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك وأما فيما بينهما فلتركب [ ص: 91 ] الأمرين وأورد عليهم الاختلاف المشاهد في سطحها فأجابوا عنه بأن ذلك لا يقدح في أصل الكرية الحسية المعلومة بما ذكر فإن نسبة ارتفاع أعظم الجبال على ما استقر عليه استقراؤهم وانتهت إليه آراؤهم وهو جبل دماوند فيما بين الري وطبرستان أو جبل في سرنديب إلى قطر الأرض كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع .

واعترض ذلك بأنه هب أن ما ذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور في الماء فإن قالوا : إذا كان الظاهر كريا فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة قلنا : فالمرجع حينئذ إلى البساطة واقتضاؤها الكرية الحقيقية ولا شك أنه يمنعها التضاريس وإن لم تظهر للحس لكونها في غاية الصغر لكن أنت تعلم أن أرباب التعليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور ولا يليق بهم الجواب بالرجوع إلى البساطة والحق الذي لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل أن ما ظهر منها كرى حسا ولذلك كرية الفلك تختلف أوقات الصلاة في البلاد فقد يكون الزوال ببلد ولا يكون ببلد آخر وهكذا الطلوع والغروب وغير ذلك وكرية ما عدا ما ذكر لا يعلمها إلا الله تعالى نعم إنها لعظم جرمها الظاهر يشاهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح وهكذا كل دائرة عظيمة وبذلك يعلم أنه لا تنافي بين المد وكونها كروية وزعم ابن عطية أن ظاهر الشريعة يقتضي أنها مسطحة وكأنه يقول بذلك وهو خلاف ما يقتضيه الدليل وهي عندهم ثلاث طبقات الطبقة الصرفة المحيطة بالمركز ثم الطبقة الطينية ثم الطبقة المخالطة التي تتكون فيها المعادن وكثير من النباتات والحيوانات والصرفة منها غير ملونة عند بعضهم ومال ابن سينا إلى أنها ملونة واحتج عليه بأن الأرض الموجودة عندنا وإن كانت مخلوطة بغيرها ولكنا قد نجد فيها ما يكون الغالب عليه الأرضية فلو كانت الأرض البسيطة شفافة لكان يجب أن نرى في شيء من أجزاء الأرض مما ليس متكونا تكونا معدنيا شيئا فيه إشفاف ولكان حكم الأرض في ذلك حكم الماء والهواء فإنهما وإن امتزجا إلا أنهما ما عدما الإشفاف بالكلية واختلف القائلون بالتلون فمنهم من قال : إن لونها هو الغبرة ومنهم من زعم أنه السواد وزعم أن الغبرة إنما تكون إذا خالطت الأجزاء الأرضية أجزاء هوائية فبسببها يتكسر ويحصل الغبرة وأما إذا اجتمعت تلك الأجزاء بحيث لا يخالطها كثير هوائية اشتد السواد وذلك مثل الفحم قبل أن يترمد فإن النار لا عمل لها إلا في تفريق المختلفات فهي لما حللت ما في الخشب من الهوائية واجتمعت الأجزاء الأرضية من غير أن يتخللها شيء غريب ظهر لون أجزائها وهو السواد ثم إذا رمدته اختلطت بتلك الأجزاء أجزاء هوائية فلا جرم ابيضت مرة أخرى ولذلك صح في الخبر وقد سبق إطلاق الغبراء على الأرض وهو محتمل لأن تكون سائر طبقاتها كذلك ولأن يكون وجهها الأعلى كذلك نعم جاء في بعض الآثار أن في أسفل الأرض ترابا أبيض وما ذكر من الطبقات مما لا يصادم خبرا صحيحا في ذلك وكونها سبع طبقات بين كل طبقة وطبقة كما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفي كل خلق غير مسلم ومن الأرض مثلهن لا يثبته كما ستعلم إن شاء الله تعالى والخبر في ذلك غير مسلم الصحة أيضا ومثل ذلك فيما أرى ما روي عن كعب أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : إن الله تعالى جعل مسيرة ما بين المشرق والمغرب خمسمائة سنة فمائة سنة في المشرق لا يسكنها شيء من الحيوان لا جن ولا إنس ولا دابة وليس في ذلك شجرة ومائة سنة في المغرب كذلك وثلاثمائة سنة فيما بين المشرق والمغرب يسكنها الحيوان وكذا ما أخرجه ابن [ ص: 92 ] حاتم عن عبد الله بن عمر من أن الدنيا مسيرة خمسمائة عام أربعمائة عام خراب ومائة عمران والمقرر عند أهل الهندسة والهيئة غير هذا فقد ذكر القدماء منهم أن محيط دائرة الأرض الموازية لدائرة نصف النهار ثمانية آلاف فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة واحدة وهي عندهم اثنان وعشرون فرسخا وتسع فراسخ في ثلاثمائة وستين محيط الدائرة العظمى على الأرض والمتأخرون أن ذلك ستة آلاف وثمانمائة فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة وهي عندهم تسعة عشر فرسخا إلا تسع فراسخ في المحيط المذكور وعلى القولين التفاوت بين ما يقوله المهندسون ومن معهم وما نسب لغيرهم ممن تقدم أمر عظيم والحق في ذلك مع المهندسين .

وزعموا أن الموضع الطبيعي هو الوسط من الفلك وأنها بطبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء ساكنة في حاق الوسط منه لكن لما حصل في جانب منها تلال وجبال ومواضع عالية وفي جانب آخر ضد ذلك لأسباب ستسمعها بعد إن شاء الله تعالى وكان من طبع الماء أن يسيل من المواضع العالية إلى المواضع العميقة لا جرم انكشف الجانب المشرف من الأرض وسال الماء إلى الجوانب العميقة منها وللكواكب في زعمهم تأثير في ذلك بحسب المسامتات التي تتبدل عند حركاتها خصوصا الثوابت والأوجات والحضيضات المتغيرة في أمكنتها وحكم أصحاب الأرصاد أن طول البر المنكشف نصف دور الأرض وعرضه أحد أرباعها إلى ناحية الشمال وفي تعيين أي الربعين الشماليين منكشف تعذر أو تعسر كما قال صاحب التحفة وأما ما عدا ذلك فقال الإمام : لم يقم دليل على كونه مغمورا في الماء ولكن الأشبه ذلك إذ الماء أكثر من الأرض أضعافا لأن كل عنصر يجب أن يكون بحيث لو استحال بكليته إلى عنصر آخر مثله والماء يصغر حجمه عند الاستحالة أرضا ومع ذلك لو كان في بعض المواضع من الأرباع الثلاثة عمارة قليلة لا يعتد بها وأما تحت القطبين فلا يمكن أن يكون عمارة لاشتداد البرد : وإنما حكموا بأن المعمور الربع لأنهم لم يجدوا في أرصاد الحوادث الفلكية كالخسوفات وقرانات الكواكب التي لا اختلاف منظر لها تقدما في ساعات الواغلين في المشرق لتلك الحوادث على ساعات الواغلين في المغرب زائدا على اثنتي عشرة ساعة مستوية وهي نصف الدور لأن كل ساعة خمسة عشر جزأ من أجزاء معدل النهار تقريبا وضرب خمسة عشر في اثني عشر مائة وثمانون ونحن نقول بوجود الخراب وأنه أكثر من المعمور بكثير وأكثر المعمور شمالي ولا يوجد في الجنوب منه إلا مقدار يسير لكنا نقول : ما زعموه سببا للانكشاف غير مسلم ونسند كون الأرض بحيث وجدت صالحة لسكنى الحيوانات وخروج النبات إلى قدرته تعالى واختياره سبحانه وإلا فمن أنصف علم أن لا سبيل للعقل إلى معرفة سبب ذلك على التحقيق وقال : إنه تعالى فعل ذلك في الأرض لمجرد مشيئته الموافقة للحكمة .

وجعل فيها رواسي أي جبالا ثوابت في أحيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة ولم يذكر الموصوف لإغناء غلبة الوصف بها عن ذلك وفواعل يكون جمع فاعل إذا كان صفة مؤنث كحائض أو صفة ما لا يعقل مذكر كجعل بازل وبوازل أو اسما جامدا أو ما جرى مجراه كحائط وحوائط وانحصار مجيئه جمعا لذلك في فوارس وهوالك ونواكس إنما هو في صفات العقلاء لا مطلقا والجمع هنا في صفة ما لا يعقل قيل : فلا حاجة إلى جعل المفرد هنا راسية صفة لجمع القلة أعني أجبلا ويعتبر في جمع الكثرة أعني جبالا انتظامه لطائفة من جموع القلة وينزل كل منها منزلة مفرده كما قيل على أنه لا مجال لذلك لأن جمعية كل من صيغتي الجمعين إنما هي [ ص: 93 ] لشمول الإفراد لا باعتبار شمول جمع القلة للإفراد وجمع الكثرة لجموع القلة فكل منهما جمع جبل لا أن جبالا جمع أجبل . اهـ . وتعقب بأنه لعل من قال : إن الرواسي هنا جمع راسية صفة أجبل لا يلتزم ما ذكروا أنه إذا صح إطلاق أجبل راسية على جبال قطر مثلا صح إطلاق الجبال على جبال جميع الأقطار من غير اعتبار جعل الجبال جمعا لجموع القلة نعم لا يصح أن يكون جبال جمع أجبل لأنه يصير حينئذ جمع الجمع وهو خلاف ما صرح به أهل اللغة وجعل راسية صفة جبل لا أجبل والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث كما في علامة يرد عليه أن تاء المبالغة في فاعلة غير مطرد .

وقال أبو حيان : إنه غلب على الجبال وصفها بالرواسي ولذا استغنوا بالصفة عن الموصوف وجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وهو مما لا حاجة إليه لما سمعت وأورد عليه أيضا أن الغلبة تكون بكثرة الاستعمال والكلام في صحته من أول الأمر ففيما ذكره دور وأجيب بأن كثرة استعمال الرواسي غير جار على موصوف يكفي لمدعاه وفيه تأمل وكذا لا حاجة إلى ما قيل : إنه جمع راسية صفة جبل مؤنث باعتبار البقعة وكل ذلك ناشئ من الغفلة عما ذكره محققو علماء العربية هذا والتعبير عن الجبال بهذا العنوان لبيان تفرع قرار الأرض على ثباتها وفي الخبر لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تميد فخلق الله تعالى الجبال عليها فاستقرت فقالت الملائكة : ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال قال : نعم الحديد فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الحديد قال : نعم النار فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من النار قال : نعم الماء فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الماء قال : نعم الهواء فقالوا : ربنا خلقت خلقا أعظم من الهواء قال نعم ابن آدم يتصدق الصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله وأول جبل وضع على الأرض كما أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء أبو قبيس ومجموع ما يرى عليها من الجبال مائة وسبعة وثمانون جبلا وأبى الفلاسفة كون استقرار الأرض بالجبال واختلفوا في سبب ذلك فالقائلون بالكرية منهم من جعله جذب الفلك لها من جميع الجوانب فيلزم أن تقف في الوسط كما يحكى عن ضم حديدي في بيت مغناطيس الجوانب كلها فإنه وقف في الوسط لتساوي الجذب من كل جانب ورد بأن الأصغر أسرع انجذابا إلى الجاذب من الأكبر فما بال المدرة لا تنجذب إلى الفلك بل تهرب عنه إلى المركز وأيضا إن الأقرب أولى بالانجذاب من الأبعد فالمدرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب على أصلهم فكان يجب أن لا تعود ومنهم من جعله دفع الفلك بحركته لها من كل الجوانب كما إذا جعل شيء من التراب في قارورة كرية ثم أديرت على قطبيها إدارة سريعة فإنه يعرض وقوف التراب في وسطها لتساوي الدفع من كل جانب ورد بأن الدفع إذا كانت قوته هذه القوة فما باله لا يحس به وأيضا ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة الرياح والسحب إلى جهة بعينها وأيضا ما باله لم يجعل انتقالنا إلى المغرب أسهل من انتقالنا إلى المشرق وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل كلما كان أعظم أيضا لأن اندفاع الأعظم من الدافع أبطأ من اندفاع الأصغر وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل النازل ابتداء أسرع من حركته انتهاء لأنه عند الابتداء أقرب إلى الفلك وغير القائلين بها منهم من جعلها غير متناهية من جانب السفل وسبب سكونها عندهم أنها لم يكن لها مهبط تنزل فيه ويرد دليل تناهي الأجسام ومنهم من قال بتناهيها وجعل السبب طفوها على الماء مع كون محدبها فوق مسطحها أسفل وإما مع العكس ورد بأن مجرد الطفو لا يقتضي السكون على أن فيه عند الفلاسفة بعد ما فيه وذهب [ ص: 94 ] محققوهم إلى أن سكونها لذاتها لا لسبب منفصل قال في المباحث الشرقية : والوجه المشترك في إبطال ما قالوا في سبب السكون أن يقال : جميع ما ذكرتموه من الجذب والدفع وغيرهما أمور عارضة وغير طبيعية ولا لازمة للماهية فيصح فرض ماهية الأرض عارية عنها فإذا قدرنا وقوع هذا الممكن فإما أن تحصل في حيز معين أو لا تحصل فيه وحينئذ إما أن تحصل في كل الأحياز أو لا تحصل في شيء منها والأخيران ظاهرا الفساد فتعين الأول وهو أن تختص بحيز معين ويكون ذلك لطبعها المخصوص ويكون حينئذ سكونها في الحيز لذاتها لا لسبب منفصل وإذا عقل ذلك فليعقل في اختصاصها بالمركز أيضا ثم ذكر في تكون الجبال مباحث الأول الحجر الكبير إنما يتكون لأن حرا عظيما يصادف طينا لزجا إما دفعة أو على سبيل التدريج .

وأما الارتفاع فله سبب بالذات وسبب بالعرض أما الأول فكما إذا نقلت الريح الفاعلة للزلزلة طائفة من الأرض وجعلتها تلا من التلال وأما الثاني فأن يكون الطين بعد تحجره مختلف الأجزاء في الرخاوة والصلابة وتتفق مياه قوية الجري أو رياح عظيمة الهبوب فتحفر الأجزاء الرخوة وتبقى الصلبة ثم لا تزال السيول والرياح تؤثر في تلك الحفر إلى أن تغور غورا شديدا ويبقى ما تنحرف عنه شاهقا والأشبه أن هذه المعمورة وقد كانت في سالف الدهر مغمورة في البحار فحصل هناك الطين اللزج الكثير ثم حصل بعد الانكشاف وتكونت الجبال ومما يؤيد هذا الظن في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف ثم لما حصلت الجبال وانتقلت البحار حصل الشهوق إما لأن السيول حفرت ما بين الجبال وإما لأن ما كان من هذه المنكشفات أقوى تحجرا وأصلب طينة إذا انهد ما دونه بقي أرفع وأعلى إلا أن هذه أمور لا تتم في مدة تفي التواريخ بضبطها والثاني سبب عروق الطين في الجبال يحتمل أن يكون من جهة ما تفتت منها وتترب وسالت عليه المياه ورطبته أو خلطت به طينها الجيد وأن يكون من جهة أن القديم من طين البحر غير متفق الجوهر منه ما يقوى تحجره ومنه ما يضعف وأن يكون من جهة أنه يعرض للبحر أن يفيض قليلا قليلا على سهل وجبل فيعرض للسهل أن يصير طينا لزجا مستعدا للتحجر القوي وللجبل أن يتفتت كما إذا نقعت آجرة وترابا في الماء ثم عرضت الآجرة والطين على النار فإنه حينئذ تتفتت الآجرة ويبقى الطين متحجرا والثالث قد نرى بعض الجبال منضودا ساقا فساقا فيشبه أن يكون ذلك لأن طينته قد ترتبت هكذا بأن كان ساق قد ارتكم أولا ثم حدث بعده في مدة أخرى ساق آخر فارتكم وكان قد سال على كل ساق من خلاف جوهره فصار حائلا بينه وبين الساق الآخر فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن انتثر عما بين الساقين . هذا وتعقب ما ذكروه في سبب التكون بأنه لا يخفى أن اختصاص بعض من أجزاء الأرض بالصلابة وبعض آخر منها بالرخاوة مع استواء نسبة تلك الأجزاء كلها إلى الفلكيات التي زعموا أنها المعدات لها قطعا للمجاورة والملاصقة الحاصلة بين الأجزاء الرخوة والصلبة يستدعي سببا مخصصا وعند هذا الاستدعاء يقف العقل ويحيل ذلك الاختصاص على سبب من خارج هو الفاعل المختار جل شأنه فليت شعري لم لم يفعل ذلك أولا حذفا [ ص: 95 ] للمؤنة نعم لا يبعد أن يكون ذلك من أسباب تكونها بإرادة الله تعالى عند من يقول من المليين وغيرهم بالوسائط لا عند الأشاعرة إذ الكل عندهم مستند إليه سبحانه ابتداء فلا يتصور واسطة حقيقة على رأيهم وما ذكر من الأسباب أمور لا تفيد إلا ظنا ضعيفا وحديث رؤية أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف كذلك أيضا فإنا كثيرا ما نرى في ذلك مواضع المطر وقد أخبرني من أثق به أنه شاهد ضفادع وقعت في المطر على أن ذلك لا يتم على تقدير أن يكون المكشوف من الأرض قد انكشف في مبدأ الفطرة ولم يكن مغمورا بالماء ثم انكشفت وهو مما ذهب إليه بعض محققي الفلاسفة أيضا واعترضوا على القائلين بأن الانكشاف قد حصل بعد بأن أقوى أدلته أن حضيص الشمس في جانب الجنوب فقرب الشمس إلى الأرض هناك أكثر من جانب الشمال بقدر ثخن المتمم من ممثلها فتشتد بذلك الحرارة هناك فانجذب الماء من الشمال إلى الجنوب لأن الحرارة جذابة للرطوبة فلذا انكشف الربع الشمالي فإذا انتقل الحضيض إلى جانب الشمال انعكس الأمر ويرد عليه أنه لو كان كذلك لكان الربع الشمالي الآخر أيضا مكشوفا إذ لا فرق بين الربعين في ذلك وفي التزام ذلك بعد على أنه لم يلتزمه أحد .

ثم إن وجود الجبال في المغمور وجودها في المعمور يستدعي أنه كان معمورا وأن الحضيض كان في غير جهته اليوم وهو قول بأن البر لا يزال يكون بحرا والبحر لا يزال يكون برا بتبدل جهتي الأوج والحضيض فيكون المنكشف تارة جانب الشمال وأخرى جانب الجنوب وحيث إن ذلك إنما يكون على سبيل التدريج يقتضي أن نشاهد اليوم شيئا من جانب الجنوب منكشفا ومن جانب الشمال مغمورا ولا تظن وجود ذلك ولو كان لاشتهر فإن أوج الشمس اليوم في عاشرة السرطان وحركته في كل سنة دقيقة تقريبا فيكون من الوقت الذي انتقل فيه من الجانب الشمالي إلى اليوم آلاف عديدة من السنين يغمر فيها كثير ويعمر كثير نعم يحكى أن جزيرة قبرس كانت متصلة بالبر ثم حال البحر بينهما لكنه على تقدير ثبوته ليس مما نحن فيه ولا نسلم أن يكي دنيا مما حدث انكشافها لجواز أن تكون منكشفة من قبل فالحق أن هذا البر بعد أن وجد لم يصر بحرا وهذا البحر المحيط بعد أن أحاط لم يصر برا وهو الذي تقتضيه الأخبار الإلهية والآثار النبوية نعم جاء في بعض الآثار ما ظاهره أن الأرض المسكونة كانت مكشوفة في مبدأ الفطرة كأثر الياقوتة وفي بعض آخر منها ما ظاهره أنها كانت مغمورة كخبر ابن عباس أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخلق أمر الريح فأبدت عن حشفة ومنها دحيت الأرض ما شاء الله تعالى في الطول والعرض فجعلت تميد فجعل عليها الجبال الرواسي وفي التوراة ما هو نص في ذلك ففي أول سفر الخليقة منها أول ما خلق الله تعالى السماء والأرض وكانت غامرة مستبحرة وكان هناك ظلام وكانت رياح الإله تهب على وجه الماء فشاء الله تعالى أن يكون نور فكان ثم ذكر فيه أنه لما مضى يوم ثان شاء الله تعالى أن يجتمع الماء من تحت السماء إلى موضع واحد ويظهر اليبس فكان كذلك وسمى الله سبحانه اليبس أرضا ومجتمع الماء بحارا وفيه أيضا إن خلق النيرين كان في اليوم الثالث وهو آب عن جعل سبب الانكشاف ما سمعت عن قرب من قرب الشمس وما أشارت إليه هذه الآية ونطق به غيرها من الآيات من كون الجبال سببا لاستقرار الأرض وأنها لولاها لمادت أمر لا يقوم على أصولنا دليل يأباه فنؤمن به وإن لم نعلم ما وجه ذلك على التحقيق ويحتمل أن يكون وجهه أن الله تعالى خلق الأرض حسبما اقتضته حكمته صغيرة بالنسبة إلى سائر الكرات وجعل لها مقدارا من الثقل معينا ووضعها في المكان الذي وضعها فيه من [ ص: 96 ] الماء وأظهر منها ما أظهر وليس ذلك إلا بسبب مشيئته تعالى التابعة لحكمته سبحانه لا لأمر اقتضاه ذاتها فجعلت تميد لاضطراب أمواج البحر المحيط بها فوضع عليها من الجبال ما ثقلت به بحيث لم يبق للأمواج سلطان عليها وهذا كما يشاهد في السفن حيث يضعون فيها ما يثقلها من أحجار وغيرها لنحو ذلك وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إليها النسبة السابقة لا يضرنا في هذا المقام لأن الحجم أمر والنقل أمر آخر فقد يكون ذو الحجم الصغير أثقل من ذي الحجم الكبير بكثير ولا يقال : إن خلقها ابتداء بحيث لا تزحزحها الأمواج كان ممكنا فلم لم يفعله سبحانه وتعالى بل خلقها بحيث تحركها الأمواج ثم وضع عليها الجبال لدفع ذلك لأنا نقول إنما فعل سبحانه هكذا لما فيه من الحكم التي هو جل شأنه بها أعلم وهذا السؤال نظير أن يقال : إن خلق الإنسان ابتداء بحيث لا يؤثر فيه الجوع والعطش مثلا شيئا كان ممكنا فلم لم يفعله تعالى بل خلقه بحيث يؤثران فيه ثم خلق له ما يدفع به ذلك ليدفعه به وله نظائر بعد كثيرة وليس ذلك إلا ناشئا عن الغفلة عما يترتب على ما صدر منه تعالى من الحكم ولعل الحكمة فيما نحن فيه إظهار مزيد عظمته جلت عظمته للملائكة عليهم السلام فإن ذلك مما يوقظ جفن الاستعظام ألا تراهم كيف قالوا حين رأوا ما رأوا ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال .. إلخ .

ويقال لمن لم يؤمن بهذا بين أنت لنا حكمة تقدم بعض الأشياء على بعض في الخلق كيفما كان التقدم وكذا حكمة خلق الإنسان ونحوه محتاجا وخلق ما يزيل احتياجه دون خلقه ابتداء على وجه لا يحتاج معه إلى شيء فإن بين شيئا قلنا بمثله فيما نحن فيه ثم إنا نقول : ليس حكمة خلق الجبال منحصرة في كونها أوتادا للأرض وسببا لاستقرارها بل هناك حكم كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى .

وقد ذكر الفلاسفة للجبال منافع كثيرة قالوا : إن مادة السحب والعيون والمعدنيات هي البخار فلا تتكون إلا في الجبال أو فيما يقرب منها أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرضين فلا جرم كانت أقواها على حبس البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءا ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئا من البخار يتحلل وقعر الأرض التي تحته كالقرع والعيون كالأذناب التي في الأنابيق والأودية والبخار كالقوابل ولذلك أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وهو مع هذا لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة وأما إن أكثر السحب تكون في الجبال فوجوه أحدها أن في باطن الجبال من النداوات ما لا يكون في باطن الأرضين الرخوة وثانيهما : إن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء والثلوج ما لا يبقى على ظاهر الأرضين وثالثهما : إن الأبخرة الصاعدة تكون في الجبال وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب تراكم السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهرا وباطنا أكثر والاحتقان أشد والسبب المحلل وهو الحر أقل وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة فيكون اختلاطها بالأرضية أكثر إقامتها في مواضع لا تنفرق فيها أطول ولا شيء في هذا المعنى كالجبال ومن تأمل علم أن للجبال منافع غير ذلك لا تحصى فلا يضر أن بعضا من الناس من وراء المنع لبعض ما ذكر وسمعت من بعض العصريين أن من جملة منافعها كونها سببا لانكشاف هذا المقدار المشاهد من الأرض [ ص: 97 ] وذلك لاحتباس الأبخرة الطالبة لجهة العلو فيها وهو يقتضي أن الأرض قبلها كانت مغمورة وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام لما خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت على أنه يتراءى المنافاة بين جعلها أوتادا المصرح به في الآيات وكونها جاذبة للأرض إلى جهة العلو ولا يرد على ما ذكر في توجيه كونها سببا لاستقرار الأرض أن كونها فيها كشرع في سفينة ينافيه إذ يقتضي ذلك أن تتحرك الأرض إلى خلاف جهة مهب الهواء لأنا من وراء منع حدوث الهواء على وجه يحركها بسببه كذلك .

وهذا كله إذا حكمنا العقل في البين وتقيدنا بالعاديات وأما إذا أسندنا كل ذلك إلى قدرة الفاعل المختار جل شأنه وقلنا : إنه سبحانه خلق الأرض مائدة وجعل عليها الجبال وحفظها عن الميد لحكم علمها تحار فيها الأفكار ولا يحيط بها إلا من أوتي علما لدنيا من ذوي الأبصار ارتفعت عنا جميع المؤن وزالت سائر المحن ولا يلزمنا على هذا أيضا القول بأن الأرض وسط العالم كما هو رأي أكثر الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين .

ولم يخالف من الأولين إلا شرذمة زعموا أن كرة النار في الوسط لأنها أشرف من الأرض لكونها مضيئة لطيفة حسنة اللون وكون الأرض كثيفة مظلمة قبيحة اللون وحيز الأشرف يجب أن يكون أشرف الأحياز وهو الوسط فإذن هي في الوسط وهذا من الإقناعات الضعيفة ومع ذلك يرد عليه أنا لا نسلم شرافة النار على الأرض مطلقا فإنها إن ترجحت عليها باللطافة وما معها فالأرض راجحة بأمور أحدها أن النار مفرطة الكيفية مفسدة والأرض ليست كذلك وثانيها أنها لا تبقى في المكان الغريب مثل ما تبقى الأرض وثالثها أن الأرض حيز الحياة والنشوء والنار ليست كذلك وما ذكر من استحسان الحس البصري للنار يعارضه استحسان الحس اللمسي للأرض بالنسبة إليها على أنا لو سلمنا الأشرفية فهي لا تقتضي إلا الوسط الشرفي لا المقداري إذ لا شرف له وذلك ليس هو إلا حيزها الذي يزعمه جمهور المتقدمين لها لأنه متوسط بين الأجرام العنصرية والأجرام الفلكية ولم يخالف من الآخرين إلا شرذمة قليلة هم هرشل وأصحابه زعموا أن الشمس ساكنة في وسط العالم وكل ما عداها يتحرك عليها لأنها جرم عظيم جدا وكل الأجرام دونها لا سيما الأرض فإنها بالنسبة إليها كلا شيء والحكمة سكون الأكبر وتحرك الأصغر وهذا أيضا من الإقناعات الضعيفة ومع ذلك يرد عليه أن سكون الأصغر لا سيما بين أمواج ورياح وحركة الأكبر لا سيما مثل الحركة التي يثبتها الجمهور للشمس أبلغ في القدرة وتعليلهم ذلك أيضا بأنا لا نرى للشمس ميلا عما يقال له منطقة البروج فيقتضي أن تكون ساكنة بخلاف غيرها لا يخفى ما فيه والذي يميل إليه كثير من الناس أن تحت الأرض ماء وأنها فيه كبطيخة خضراء في حوض وجاء في بعض الأخبار أن الأرض على متن ثور والثور على ظهر حوت والحوت في الماء ولا يعلم ما تحت الماء إلا الذي خلقه وذكر غير واحد أن زيادة كبد ذلك الحوت هو الذي يكون أول طعام أهل الجنة فحملوا الحوت فيما صح من قوله صلى الله عليه وسلم : أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت على ذلك الحوت وبينوا حكمة ذلك الأكل أنه إشارة إلى خراب الدنيا وبشارة بفساد أساسها وأمن العود إليها حيث أن الأرض التي كانوا يسكنونها كانت مستقرة عليه وخص الأكل بالزائدة لما بينه الأطباء من أن العلة إذا وقعت في الكبد دون الزائدة رجي برؤه فإن وقعت في الزائدة هلك العليل فأكلهم من ذلك أدخل في البشرى ومنع بعضهم صحة الأخبار الدالة على أنها ليست على الماء بلا واسطة لا سيما الخبر الطويل الذي [ ص: 98 ] ذكره البغوي في سورة «ن» ولم ينكر صحة الخبر في أن أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت إلا أنه قال : المراد بالحوت فيه حوت ما بدليل ما رواه سلطان المحدثين البخاري أول ما يأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت يأكل منه سبعون ألفا بتنكير لفظ حوت ونظير ذلك في صحيح مسلم حيث ذكر فيه أنه تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وإن إدامهم ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا وذكر حال الأرض فيه لا يعين مراد الخصم فإنه يجوز أن يكون الجمع بين ذلك للإشارة إلى خراب الدنيا وانقطاع أمر الاستعداد للمعاش وانصرام الحياة العنصرية المائية أما الإشارة إلى الأول فظاهر وأما إلى الثاني فبالاستيلاء على الثور وأكل زائدة كبده فإنه عمدة عدة الحارث المهتم لأمر معاشه وفي الخبر كلكم حارث وكلكم همام وأما الإشارة إلى الثالث فبالاستيلاء على الحوت وأكل زائدة كبده أيضا فإنه حيوان عنصري مائي لا يمكن أن يحيا سويعة إذا فارق الماء وبهذا يظهر المناسبة التامة بين ما اشتمل عليه الخبر ولا يبعد أن يكون ظهور الحياة الدنيوية بصورة الحوت وما يحتاج إليه فيها من أسباب الحراثة الضرورية في أمر المعاش بصورة الثور وكل الصيد في جوف الفرا ويكون ذلك من قبيل ظهور الموت في صورة الكبش الأملح في ذلك اليوم وقال بعض العارفين في سر تخصيص الكبد : إنه بيت الدم وهو بيت الحياة ومنه تقع قسمتها في البدن إلى القلب وغيره وبخار ذلك الدم هو النفس المعبر عنه بالروح الحيواني ففي كونه طعاما لأهل الجنة بشارة بأنهم أحياء لا يموتون وذكر أنه يستخرج من الثور الطحال وهو في الحيوان بمنزلة الأوساخ في البدن فإنه يجتمع فيه أوساخ البدن مما يعطيه البدن من الدم الفاسد فيعطى لأهل النار يأكلونه وكان ذلك من الثور لأنه بارد يابس كطبع الموت وجهنم على صورة جاموس والغذاء لأهل النار من طحاله أشد مناسبة منه فلما فيه من الدمية لا يموت أهل النار ولما أنه من أوساخ البدن ومن الدم الفاسد المؤلم لا يحيون ولا ينعمون فما يزيدهم أكله إلا مرضا وسقما .

ونقل عن الغزالي والعهدة على الناقل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل تارة ما تحت الأرض فقال : الحوت وسئل أخرى فقال : الثور وعنى عليه الصلاة والسلام بذلك البرجين اللذين هما من البروج الاثني عشر المعلومة وقد كان كل منهما وتد الأرض وقت السؤال ولو كان الوتد إذ ذاك العقرب مثلا لقال عليه الصلاة والسلام العقرب تحت الأرض وأنت تعلم أن ذلك بمعزل عن مقاصد الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يتم على ما وقفت عليه من أن الأرض على متن الثور والثور على ظهر الحوت والحوت على الماء والقول بأن المراد أن الأرض فوق الثور باعتبار أنه وتدها حين الإخبار والثور فوق الحوت باعتبار أنه من البروج الشمالية والحوت من البروج الجنوبية والبروج الشمالية في غالب المعمورة تعد فوق البروج الجنوبية والحوت فوق الماء باعتبار أنه ليس بينه وبينه حائل يرى لا يقدم عليه إلا ثور أو حمار وبعضهم يؤول خبر الترتيب بأن المراد منه الإشارة إلى أن عمارة الأرض موقوفة على الحراثة وهي موقوفة على السعي والاضطراب وذلك الثور من مبادي الحراثة والحوت لا يكاد يسكن عن الحركة في الماء وهو كما ترى والذي ينبغي أن يعول عليه الإيمان بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح فليس وراءه عليه الصلاة والسلام حكيم والترتيب الذي يذكره الفلاسفة لم يأتوا له ببرهان مبين وليس عندهم فيه سوى ما يفيد الظن وحينئذ فيمكن القول [ ص: 99 ] بترتيب آخر نعم لا ينبغي القول بترتيب يكذبه الحس ويأباه العقل الصريح وإن جاء مثل ذلك عن الشارع وجب تأويله كما لا يخفى وذكر بعض الفضلاء أنه لم يجئ في ترتيب الأجرام العلوية والسفلية وشرح أحوالها كما فعل الفلاسفة عن الشارع صلى الله عليه وسلم لما أن ذلك ليس من المسائل المهمة في نظره عليه الصلاة والسلام وليس المهم إلا التفكر فيها والاستدلال بها على وحدة الصانع وكماله جل شأنه وهو حاصل بما يحس منها فسبحان من رفع السماء بغير عمد ومد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا جمع نهر وهو مجرى الماء الفائض وتجمع أيضا على نهر ونهور وأنهر وتطلق على المياه السائلة على الأرض وضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث أن الجبال سبب لتكونها على ما قيل وتعقب بأنه مبني على ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من أن الجبال لتركبها من أحجار صلبة إذا تصاعدت إليها الأبخرة احتبست فيها وتكاملت فتنقلب مياها وربما خرقتها فخرجت وذكر أن الذي تدل عليه الآثار أنها تنزل من السماء لكن لما كان نزولها عليها أكثر كانت كثيرا ما تخرج الأنهار منها ويكفي هذا لتشريكهما في عامل واحد وجعلهما جملة واحدة وكأنهم عنوا بالنزول من السماء على الجبال نزول ماء المطر من السماء التي هي أحد الأجرام العلوية عليها والأكثرون أن النزول من السحاب والمراد من السماء جهة العلو وهو الذي تحكم به المشاهدة وقد أسلفنا لك ما يتعلق بذلك أول الكتاب فتذكر .

والأنهار التي جعلها الله تعالى في الأرض كثيرة وذكر بعضهم أنها مائة وستة وتسعون نهرا وقيل : هي أكثر من ذلك وجاء في أربعة منها أنها من الجنة ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة والأولان بالألف بعد الحاء وهما نهران في أرض الأردن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر أدنة وقول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام غلط أو أنه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام وهما غير سيحون وجيحون بالواو فإن سيحون نهر الهند وهو يجري من جبال بأقاصيها مما يلي العين إلى أن ينصب في البحر الحبشي مما يلي ساحل الهند ومقدار جريه أربعمائة فرسخ وجيحون نهر بلخ يجري من أعين إلى أن يأتي خوارزم فيتفرق بعضه في أماكن ويمضي باقيه إلى البحيرة التي عليها القرية المعروفة بالجرجانية أسفل خوارزم يجري منه إليها السفن طولها مسيرة شهر وعرضها نحو ذلك وأما قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان فقد قال النووي : إن فيه إنكارا من أوجه أحدها قوله : الفرات بالعراق وليست بالعراق وإنما هي فاصلة بين الشام والجزيرة الثاني قوله : سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس والثالث قوله : ببلاد خراسان إنما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام . انتهى .

وقد يجاب عن الأول بنحو ما أجيب به عن الجوهري ولا يخفى أنه بعد زعم الترادف يصح الحكم بأنهما ببلاد خراسان كما يصح الحكم بأنهما ببلاد الأرمن وفي كون هذه الأنهار من الجنة تأويلان الأول أن المراد تشبيه مياهها [ ص: 100 ] بمياه الجنة والإخبار بامتيازها على ما عداها ومثله كثير في الكلام والثاني ما ذكره القاضي عياض أن الإيمان عم بلادها وأن الأجسام المتغذية منها صائرة إلى الجنة وهذا ليس بشيء ولو رد إلى اعتبار التشبيه أي أنها مثل أنهار الجنة في أن المتغذين من مائها المؤمنون لكان أوجه وقال النووي : الأصح أن الكلام على ظاهره وأن لها مادة من الجنة وهي موجودة اليوم عند أهل السنة .

ويأبى التأويل الأول ما في صحيح مسلم أيضا من حديث الإسراء وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت : يا جبريل ما هذه الأنهار فقال : أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالفرات والنيل وضمير أصلها السدرة المنتهى كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره .

والقاضي عياض قال هنا : إن هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها وتعقبه النووي بأن ذلك ليس بلازم بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه قيل : ولعل الله تعالى يوصل مياه هاتيك الأنهار بقدرته الباهرة إلى محالها التي يشاهد خروجها منها من حيث لا يراها أحد وما ذلك على الله بعزيز والظاهر أن المراد أصل مياهها الخارجة من محالها لا هي وما ينظم إليها من السيول وغيرها وكأني أرى بعض الناس ليسنى يلتزم ذلك في جميع ما لا يجري في هاتيك الأنهار وبعضهم أيضا يجعل الأخبار في هذا الشأن إشارات إلى أمور أنفسية فقط وليس مما ترتضيه الأنفس المرضية نعم أنا لا أمنع التأويل مع بقاء الأمر أفاقيا وليس عدم اعتقاد الظاهر مما يخل بالدين كما لا يخفى على من لا تعصب عنده .

وللإخباريين في هذه الأنهار كلام طويل تمجه أسماع ذوي الألباب ولا يجري في أنهار قلوبهم ولا أراه يصلح إلا للإلقاء في البحر .

وجاء في بعض الأخبار مرفوعا نهران مؤمنان ونهران كافران أما المؤمنان فالنيل والفرات وأما الكافران فدجلة وجيحون وحمل ذلك على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم شبه النهرين الأولين لنفعهما بسهولة بالمؤمن والنهرين الأخيرين بالكافر لعدم نفعهما كذلك أنهما إنما يخرج في الأكثر ماؤهما بآلة ومشقة وإلا فوصف ذلك بالإيمان والكفر على الحقيقة غير ظاهر ثم إن أفضل الأنهار كما قال غير واحد النيل وباقيها على السواء وزاد بعضهم في عداد ما هو من الجنة دجلة وروى في ذلك خبرا عن مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وليس مما يعول عليه والله تعالى أعلم ومن كل الثمرات متعلق بجعل في قوله تعالى : جعل فيها زوجين اثنين أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع لكن اثنينية ذلك اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحلو والحامض أو في القدر كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك .

وقيل : المعنى خلق في الأرض من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت وتعقب أنه دعوى بلا دليل مع أن الظاهر خلافه فإن النوع الناطق المحتاج إلى زوجين خلق ذكره [ ص: 101 ] أولا فكيف في الثمرات وتكون واحد من كل أولا كاف في التكون والوجه ما ذكر أولا وجوز أن يتعلق الجار بجعل الأول ويكون الثاني استئنافا لبيان كيفية الجعل .

وزعم بعضهم أن المراد بالزوجين على تقدير تعلق الجار بجعل السابق الشمس والقمر وقيل : الليل والنهار وكلا القولين ليس بشيء يغشي الليل النهار أي يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا ففيه إسناد ما لمكان الشيء إليه وفي جعل الجو مكانا للنهار تجوز لأن الزمان لا مكان له والمكان إنما هو للضوء الذي هو لازمه وجوز في الآية استعارة كقوله تعالى : يكور الليل على النهار يجعله مغشيا للنهار ملفوفا عليه كاللباس على الملبوس قيل : والأول أوجه وأبلغ واكتفى بذكر تغشية الليل النهار مع تحقق عكسه للعلم به منه مع أن اللفظ يحتملها إلا أن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا باعتبار ظهوره في الأرض .

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ( يغشي ) بالتشديد وقد تقدم تمام الكلام في ذلك إن في ذلك أي فيما ذكر من مد الأرض وجعل الرواسي عليها وإجراء الأنهار فيها وخلق الثمرات وإغشاء الليل النهار وفي الإشارة بذلك تنبيه على عظم المشار إليه في بابه لآيات باهرة قيل : هي آثار الأفاعيل البديعة جلت حكمة صانعها ففي على معناها فإن تلك الآثار مستقرة في تلك الأفاعيل منوطة بها وجوز أن يشار بذلك إلى تلك الآثار المدلول عليها بتلك الأفاعيل لقوم يتفكرون . (3) . فإن التفكر فيها يؤدي إلى الحكم بأن يكون كل من ذلك على هذا النمط الرائق والأسلوب اللائق لا بد له من مكون قادر حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد والفكرة كما قال الراغب قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك للأنسان دون الحيوان ولا يقال : إلا فيما لا يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتفكروا في الله تعالى إذ كان الله سبحانه منزها أن يوصف بصورة .

وقال بعض الأدباء : الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها والمشهور أنه ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول وقد تقدم وجه جعل هذا مقطعا في الآية وذكر الإمام أن الأكثر في الآيات إذا ذكر فيها الدلائل الموجودة في العالم السفلي أن يجعل مقطعها إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وما يقرب منه وسببه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الإشكالات الكوكبية فرده الله تعالى بقوله : لقوم يتفكرون لأن من تفكر فيها علم أنه لا يجوز أن يكون حدوث تلك الحوادث من الاتصالات الفلكية فتفكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية