صفحة جزء
وإن تعجب أي إن يقع منك عجب يا محمد فعجب قولهم بعد مشاهدة الآيات الدالة على عظيم قدرته تعالى أي فليكن عجبك من قولهم : أإذا كنا ترابا إلى آخره فإنه الذي ينبغي أن يتعجب منه ورفع ( عجب ) على أنه خبر مقدم و قولهم مبتدأ مؤخر وقدم الخبر للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم أمرا عجيبا وفي البحر أنه لا بد من تقدير صفة لعجب لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فيقدر والله تعالى أعلم فعجب أي عجب أو فعجب غريب وإذا قدرناه موصوفا جاز أن يعرب مبتدأ للمسوغ وهو الوصف ولا يضر كون الخبر معرفة وذلك كما قال سيبويه في كم مالك إن كم مبتدأ لوجود المسوغ فيه وهو الاستفهام وفي نحو اقصد رجلا خير منه أبوه إن خير مبتدأ للمسوغ أيضا وهو العمل ونقل أبو البقاء القول بأن ( عجب ) بمعنى معجب ثم قال : فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به .

وتعقب بأنه لا يجوز ذلك لأنه لا يلزم من كون شيء بمعنى شيء أن يكون حكمه في العمل حكمه فمعجب يعمل و ( عجب ) لا يعمل ألا ترى أن فعلا كذبح وفعلة كقبض وفعلة كغرفة بمعنى مفعول ولا يعمل عمله فلا تقول مررت برجل ذبح كبشه أو قبض ماله أو غرفة ماؤه بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومغروف ماؤه وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا العمل عن المفعول وحصر النحويون ما يرفع الفاعل في أشياء ولم يعدوا المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل منها .

والظاهر أن أإذا كنا إلى آخره في محل نصب مقول لقول محكي به والاستفهام إنكاري مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار وجوز أن يكون في محل رفع على البدلية من قولهم على أنه بمعنى المقول وهو على ما قال أبو حيان : إعراب متكلف وعدول عن الظاهر وعليه فالعجب تكلمهم بذلك وعلى الأول كلامهم ذلك والعامل في ( إذا ) ما دل عليه قوله تعالى : أإنا لفي خلق جديد وهو نبعث أو نعاد والجديد ضد الخلق والبالي ويقال : ثوب جديد أي كما فرغ من عمله وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه قطع من نسجه وتقديم الظرف لتقوية الإنكار بالبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له وتكرير الهمزة في أإنا لتأكيد الإنكار وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونهم ترابا بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له وفيه من الدلالة على عتوهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى قال أبو البقاء : ولا يجوز أن ينتصب ( إذا ) بكنا لأنها مضافة إليها ولا بجديد لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وكذا الاستفهام ورد الأول في المغني بأن ( إذا ) عند من يقول بأن العامل فيها شرطها وهو المشهور غير مضافة كما يقوله الجميع إذا جزمت كما في قوله :


وإذا تصبك خصاصة فتحمل .



قيل : فالوجه في رد ذلك أن عمله فيها موقوف على تعيين مدلولها وتعيينه ليس إلا بشرطها فيدور ونظر فيه الشهاب بأنها عندهم بمنزلة متى وأيان غير معينة بل مبهمة كما ذكره القائلون به وبه صرح في المغني أيضا .

وقيل : معنى الآية إن تعجب يا محمد من قولهم في إنكار البعث فقولهم عجيب حقيق أن يتعجب منه [ ص: 105 ] وتعقبه في البحر بأنه ليس مدلول اللفظ لأنه جعل فيه متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث وجواب الشرط هو ذلك القول فيتحد الشرط والجزاء إذ تقديره إن تعجب من إنكارهم البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث وهو غير صحيح ورد بأن ذلك مما اتحد فيه الشرط والجزاء صورة وتغايرا حقيقة كما في قوله صلى الله عليه وسلم : من كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله فهجرته إلى الله تعالى ورسوله وقولهم : من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى وهو أبلغ في الكلام لأن معناه أنه أمر لا يكتنه كنهه ولا تدرك حقيقته وأنه أمر عظيم .

وذهب بعض إلى أن الخطاب في ( إن تعجب ) عام والمعنى إن تعجب يا من نظر ما في هذه الآيات وعلم قدرة من هذه أفعاله فازدد تعجبا ممن ينكر مع هذا قدرته على البعث وهو أهون شيء عليه وقيل : المعنى إن تجدد منك التعجب لإنكارهم البعث فاستمر عليه فإن إنكارهم ذلك من الأعاجيب وقيل : المراد إن كنت تريد أيها المريد عجبا فهلم فإن من أعجب العجب إنكارهم البعث واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعا هذا وفي المؤمنين والعنكبوت والنمل والسجدة والواقعة والنازعات وبني إسرائيل في موضعين وكذا في الصافات فقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهاما والثاني خبرا إلا في العنكبوت والنمل فعكس نافع وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نونا .

وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبرا والثاني استفهاما إلا في النمل والنازعات فعكس وزاد في النمل نونا كالكسائي وإلا في الواقعة فقرأ باستفهامين وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب إلا ابن كثير وحفصا فإنهما قرآ في العنكبوت بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين أولئك مبتدأ والموصول خبره أي أولئك المنكرون للبعث ريثما عاينوا من آيات ربهم الكبرى ما يرشدهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون الذين كفروا بربهم وتمادوا في ذلك فإن إنكار قدرته عز وجل إنكار له سبحانه لأن الإله لا يكون عاجزا مع ما في ذلك من تكذيبه جل شأنه وتكذيب رسله المتفقون عليه عليهم السلام ( وأولئك ) مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : الأغلال في أعناقهم وفيه احتمالان : الأول أن يكون المراد وصفهم بذلك في الدنيا فهو تشبيه وتمثيل لحالهم في امتناعهم عن الإيمان وعدم الالتفات إلى الحق بحال طائفة في أعناقهم أغلال وقيود لا يمكنهم الالتفات معها كقوله :

كيف الرشاد وقد خلفت في نفر لهم عن الرشد أغلال وأقياد

كأنه قيل : أولئك مقيدون بقيود الضلالة لا يرجى خلاصهم الثاني أن يكون المراد وصفهم به في الآخرة والكلام إما باق على حقيقته قال سبحانه : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل وروي ذلك عن الحسن قال : إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكنما جعلت في أعناقهم لكي إذا طغا بهم اللهب أرستهم في النار وإما مخرج مخرج التشبيه لحالهم بحال من يقدم للسياسة وقيل : المراد من الأغلال أعمالهم الفاسدة التي تقلدوها كالأغلال وهو جار على احتمال أن يكون ذلك في الدنيا أو في الآخرة والأول ناظر إلى ما قيل والثاني إلى قوله تعالى : وأولئك أي الموصوفون بما ذكر [ ص: 106 ] أصحاب النار هم فيها خالدون . (5) . لا ينفكون عنها قيل : وتوسيط الفصل ليس لتخصيص الخلود بمنكري البعث خاصة بل بالجميع المدلول عليه بقوله تعالى : أولئك الذين كفروا بربهم .

وأورد على ذلك أن هم ليس ضمير فصل لأن شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر يكون اسما معرفة أو مثل المعرفة في أنه لا يقبل حرف التعريف كأفعل التفضيل وهذا ليس كذلك وأجيب بأن المراد بالفصل الضمير المنفصل وأنه أتي به وجعل الخبر جملة مع أن الأصل فيه الإفراد لقصد الحصر والتخصيص المذكور كما في هو عارف .

وقال بعضهم : لعل القائل بما ذكر لا يتبع النحاة في الاشتراط المذكور كما أن الجرجاني والسهيلي جوزا ذلك إذا كان الخبر مضارعا واسم للفاعل مثله

التالي السابق


الخدمات العلمية