صفحة جزء
مثل الجنة أي نعتها وصفتها كما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة فهو على ما في البحر من مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم ومنه وله المثل الأعلى أي الصفة العليا وأنكر أبو علي ذلك وقال : إن تفسير المثل بالصفة غير مستقيم لغة ولم يوجد فيها وإنما معناه الشبيه .

وقال بعض المحققين : إنه يستعمل في ثلاثة معان : فيستعمل بمعنى التشبيه في أصل اللغة وبمعنى القول [ ص: 163 ] السائر المعروف في عرف اللغة وبمعنى الصفة الغريبة وهو معنى مجازي له مأخوذ من المعنى العرفي بعلاقة الغرابة لأن المثل إنما يسير بين الناس لغرابته وأكثر المفسرين على تفسيره هنا بالصفة الغريبة وهو حينئذ مبتدأ خبره عند سيبويه محذوف أي فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة التي وعد المتقون أي عن الكفر والمعاصي وقدر مقدما لطول ذيل المبتدأ ولئلا يفصل بينه وبين ما يتعلق به معنى وقوله تعالى : تجري من تحتها الأنهار جملة مفسرة كخلقه من تراب في قوله سبحانه : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب أو مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال من العائد المحذوف من الصلة أي التي وعدها وقيل : هي الخبر على طريقة قولك : شأن زيد يأتيه الناس ويعظمونه واعترض بأنه غير مستقيم معنى لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة وهي فيها لا في صفتها وفيه أيضا تأنيث الضمير العائد على مثل حملا على المعنى وقد قيل : إنه قبيح وأجيب بأن ذاك على تأويل أنها تجري فالمعنى مثل الجنة جريان الأنهار أو أن الجملة في تأويل المفرد فلا يعود منها ضمير للمبتدأ أو المراد بالصفة ما يقال فيه هذا إذا وصف فلا حاجة إلى الضمير كما في خبر ضمير الشأن .

وقال الطيبي : إن تأنيث الضمير لكونه راجعا إلى الجنة لا إلى المثل وإنما جاز ذلك لأن المقصود من المضاف عين المضاف إليه وذكره توطئة له وليس نحو غلام زيد وتعقب كل ذلك الشهاب بأنه كلام ساقط متعسف لأن تأويل الجملة بالمصدر من غير حرف سابك شاذ وكذا التأويل بأنه أريد بالصفة لفظها الموصوف به وليس في اللفظ ما يدل عليه وهو تجوز على تجوز ولا يخفى تكلفه وقياسه على ضمير الشأن قياس مع الفارق وأما عود الضمير على المضاف إليه دون المبتدأ في مثل ذلك فأضعف من بيت العنكبوت فالحزم الإعراض عن هذا الوجه وعن الزجاج أن الخبر محذوف والجملة المذكورة صفة له والمراد مثل الجنة جنة تجري إلى آخره فيكون سبحانه قد عرفنا الجنة التي لم نرها بما شاهدناه من أمور الدنيا وعايناه وتعقبه أبو علي على ما في البحر بأنه لا يصح على معنى الصفة ولا على معنى الشبه لأن الجنة التي قدرها جثة ولا تكون صفة ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين الشيئين وهو حدث فلا يجوز الإخبار عنه بالجنة الجثة ورد بأن المراد بالمثل المثيل أو الشبيه فلا غبار في الإخبار وقيل : إن التشبيه هنا تمثيلي منتزع وجهه من عدة أمور من أحوال الجنان المشاهدة من جريان أنهارها وغضارة أغصانها والتفاف أفنانها ونحوه ويكون قوله تعالى : أكلها دائم وظلها بيانا لفضل تلك الجنان وتمييزها عن هذه الجنان المشاهدة وقيل : إن هذه بيان لحال جنان الدنيا على سبيل الفرض وأن فيما ذكر انتشارا واكتفاء في النظير بمجرد جريان الأنهار وهو لا يناسب البلاغة القرآنية وهو كما ترى .

ونقل عن الفراء أن الجملة خبر أيضا إلا أن المثل بمعنى الشبه مقحم والتقدير الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار إلى آخره وقد عهد إقحامه بهذا المعنى ومنه قوله تعالى : ليس كمثله شيء وتعقبه أبو حيان بأن إقحام الأسماء لا يجوز ورد بأنه في كلامهم كثير كثم اسم السلام عليكما ولا صدقة إلا عن ظهر غنى إلى غير ذلك والأولى بعد القيل والقال الوجه الأول فإنه سالم من التكلف مع ما فيه من الإيجاز والإجمال والتفصيل والظاهر أن المراد من الأكل ما يؤكل فيها ومعنى دوامه أنه لا ينقطع أبدا وقال إبراهيم التيمي : إن لذته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل بشبع وهو خلاف الظاهر [ ص: 164 ] وفسر بعضهم الأكل بالثمرة فقيل : وجهه أنه ليس في جنة الدنيا غيره وإن كان في الموعودة غير ذلك من الأطعمة واستظهر أن ذلك لإضافته إلى ضمير الجنة والأطعمة لا يقال فيها أكل الجنة وفيه تردد والظل في الأصل ضد الضح وهو عند الراغب أعم من الفيء فإنه يقال : ظل الليل ولا يقال فيؤه ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه وفي القاموس هو الضح والفيء أو هو بالغداة والفيء بالعشي جمعه ظلال وظلول وأظلال ويعبر به عن العزة والمنعة وعن الرفاهة والمشهور تفسيره هنا بالمعنى الأول وهو مبتدأ محذوف الخبر أي وأكلها كذلك أي دائم والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ومعنى دوامه أنه لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس إذ لا شمس هناك على الشائع عند أهل الأثر أو لأنها لا تأثير لها على ما قيل ويجوز عندي أن يراد بالظل العزة أو الرفاهة وأن يراد المعنى الأول ويجعل الكلام كناية عن دوام الراحة وأكفر خارجة بن معصب كما روى عنه ذلك ابن المنذر وأبو الشيخ القائل بعدم دوام الجنة كما يحكى عن جهنم وأتباعه لهذه الآية وبها استدل القاضي على أنها لم تخلق بعد لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن يفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه لكن أكلها لا ينقطع ولا يفنى للآية المذكورة فوجب أن لا تكون مخلوقة بعد ثم قال : ولا ننكر أن يكون الآن جنان كثيرة في السماء يتمتع بها من شاء الله تعالى من الأنبياء والشهداء وغيرهم إلا أنا نقول : إن جنة الخلد إنما تخلق بعد الإعادة وأجاب الإمام عن ذلك بأن دليله مركب من شيئين قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه وقوله سبحانه : أكلها دائم فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمودين سقط الدليل فنحن نخصص أحدهما بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة كقوله تعالى : وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا . اهـ .

ويرد على الاستدلال أنه مشترك الإلزام إذ الشيء في قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه الموجود مطلقا كما في قوله تعالى : ( خالق كل شيء وهو بكل شيء عليم ) والمعنى أن كل ما يوجد في وقت من الأوقات يصير هالكا بعد وجوده فيصح أن يقال : لو وجدت الجنة في وقت لوجب هلاك أكلها تحقيقا للعموم لكن هلاكه باطل لقوله تعالى : أكلها دائم فوجودها في وقت من الأوقات باطل وأجيب بأنه لعل المراد من الشيء الموجود في الدنيا فإنها دار الفناء دون الموجود في الآخرة فإنها دار البقاء وهذا كاف في عدم اشتراك الإلزام وفيه أنه إن أريد أن معنى الشيء هو الموجود في الدنيا فهو ظاهر البطلان وإن أريد أن المراد ذلك بقرينة كونه محكوما عليه بالهلاك وهو إنما يكون في الدنيا لأنها دار الفناء فنقول : إنه تخصيص بالقرينة اللفظية فنحن نخصصه بغير الجنة لقوله تعالى : أعدت للمتقين و أكلها دائم فلا يتم الاستدلال .

وأجاب غير الإمام بأن المراد هو الدوام العرفي وهو عدم طريان العدم زمانا يقيد به وهذا لا ينافي طريان العدم عليه وانقطاعه لحظة على أن الهلاك لا يستلزم الفناء بل يكفي فيه الخروج عن الانتفاع المقصود ولو سلم يجوز أن يكون المراد أن كل ممكن فهو هالك في حد ذاته بمعنى أن الوجود الإمكاني بالنظر إلى الوجود الواجبي بمنزلة العدم وقيل : في الجواب أيضا : إن المراد بالدوام المعنى الحقيقي أعني عدم طريان العدم مطلقا والمراد بدوام الأكل دوام النوع وبالهلاك هلاك الأشخاص ويجوز أن لا ينقطع النوع أصلا مع هلاك الأشخاص بأن يكون هلاك كل شخص معين من الأكل بعد وجود مثله وهذا مبني على ما ذهب إليه الأكثرون من أن الجنة لا يطرأ عليها العدم ولو لحظة وأما على ما قيل : من جريانه عليها لحظة [ ص: 165 ] فلا يتم لأنه يلزم منه انقطاع النوع قطعا كما لا يخفى .

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه ( مثال الجنة ) وفي اللوامح عن السلمي ( أمثال الجنة ) أي صفاتها تلك الجنة المنعوتة بما ذكر عقبى الذين اتقوا الكفر والمعاصي أي مآلهم ومنتهى أمرهم وعقبى الكافرين النار . (35) . لا غير كما يؤذن به تعريف الخبر وحمل الاتقاء على اتقاء الكفر والمعاصي لأن المقام مقام ترغيب وعليه يكون العصاة مسكوتا عنهم وقد يحمل على اتقاء الكفر بقرينة المقابلة فيدخل العصاة في الذين اتقوا لأن عاقبتهم الجنة وإن عذبوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية