صفحة جزء
وعلى الله قصد السبيل القصد مصدر بمعنى الفاعل، يقال: سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك ولا يعدل عنه، فهو نحو نهر جار وطريق سائر ( وعلى ) للوجوب مجازا والكلام على حذف مضاف أي متحتم عليه تعالى متعين كالأمر الواجب لسبق الوعد بيان، وقيل: هداية الطريق المستقيم الموصل لمن سلكه إلى الحق هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه، أو هو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل ( وعلى ) على حالها المار إلا أنه لا حاجة إلى تقدير المضاف أي عليه سبحانه تقويم السبيل وتعديلها أي جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق على حد صغر البعوضة وكبر الفيل وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب.

وجوز أن يكون القصد بمعنى القاصد أي المستقيم كما في التفسير الأول و ( على ) ليست للوجوب واللزوم والمعنى أن قصد للسبيل ومستقيمه موصل إليه تعالى ومار عليه سبحانه، وفيه تشبيه ما يدل على الله عز وجل بطريق مستقيم شأنه ذلك، وقد ذكر نحو هذا ابن عطية وهو كما ترى، وأل في السبيل للجنس عند كثير فهو شامل للمستقيم وغير، وإضافة القصد بمعنى المستقيم إليه من إضافة العام إلى الخاص، وإضافة الصفة إلى الموصوف خلاف الظاهر على ما قيل وقيل: أل للعهد. والمراد سبيل الشرع وقوله تعالى: ومنها جائر أي عادل عن المحجة منحرف عن الحق لا يوصل سالكه إليه ظاهر في إرادة الجنس إذ البعضية إنما تتأتى على ذلك، فإن الجائر على إرادة العهد ليس من ذلك بل قسيمه، ومن أراده أعاد الضمير على المطلق الذي في ضمن ذلك المقيد أو على المذكور بتقدير مضاف أي ومن جنسها جائر، وقال ابن عطية : يحتمل أن يعود على سبيل الشرع، والمراد بهذا البعض فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو جائر عن قصد السبيل، وزعم بعضهم أن الضمير يعود على الخلائق أي ومن الخلائق جائر عن الحق، وأيد بقراءة عيسى، ورويت عن ابن مسعود «ومنكم» وأخرجها ابن الأنباري في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه لكن بالفاء بدل الواو وليس بذاك، والتأنيث لأن السبيل تؤنث وتذكر، والجار والمجرور قيل: خبر مقدم (وجائر) مبتدأ مؤخر، وقيل: هو في محل رفع بالابتداء إما باعتبار مضمونه وإما بتقدير الموصوف أي بعض السبيل [ ص: 104 ] أو بعض من السبيل جائر، والجملة على ما اختاره بعض المحققين اعتراضية جيء بها لبيان الحاجة إلى البيان أو التعديل بنصب الأدلة والإرسال والإنزال الأمور المذكورة سابقا وإظهار جلالة قدر النعمة في ذلك، وذلك هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهداية المستلزمة للاهتداء إليه فإن ذلك ليس على الله سبحانه أصلا بل هو مخل بحكمته كما يشير إليه قوله تعالى: ولو شاء لهداكم أجمعين فإن معناه ولو شاء هدايتكم إلى ما ذكر من التوحيد هداية مستلزمة للاهتداء إليه لفعل ولكن لم يشأ لأن مشيئته تابعة للحكمة ولا حكمة في تلك المشيئة لما أن الذي يدور عليه فلك التكليف إنما هو الاختيار الذي عليه ترتب الأعمال التي بها يرتبط الجزاء، وقيد ( أجمعين ) للمنفي لا للنفي فيكون المراد سلب العموم لا عموم السلب، وذكر بعضهم أنه كان الظاهر أن يقال: وعلى الله قصد السبيل وجائرها أو وعليه جائرها إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأن الضلال لا يضاف إليه تعالى تأدبا فهو كقوله تعالى: الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم [الفاتحة: 7].

وزعم الزمخشري أن المخالفة بين أسلوبي الجملتين للإيذان بما يجوز إضافته من السبيلين إليه تعالى وما لا يجوز وعنى الإشارة إلى ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من عدم جواز إضافة الضلال إليه سبحانه لأنه غير خالقه وجعلوا الآية للمخالفة حجة لهم في هذه المخالفة. وأجاب بعض الجماعة بأن المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم بيان الدين الحق والمذهب الصحيح فأما بيان كيفية الإغواء والإضلال فليس عليه سبحانه، وبحث فيه بأنه كما أن بيان الهداية وطريقها متحتم فكذا ضده وليس إرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب إلا لذلك.

وقال ابن المنير : إن المخالفة بين الأسلوبين لأن سياق الكلام لإقامة الحجة على الخلق بأنه تعالى بين السبيل القاصد والجائر وهدى قوما اختاروا الهدى وأضل آخرين اختاروا الضلالة، وقد حقق أن كل فعل صدر على يد العبد فله اعتباران هو من حيث كونه موجودا مخلوق لله تعالى ومضاف إليه سبحانه بهذا الاعتبار، وهو من حيث كونه مقترنا باختيار العبد له وتيسره عليه يضاف إلى العبد وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له. والحاصل أنه ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر ليناسب ذلك إقامة الحجة ألا لله الحجة البالغة، وأنكر بعض المحققين أن يكون هناك تغيير الأسلوب لأمر مطلوب بناء على أن ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكا معينا ولكن يعدل عن ذلك لنكتة أهم منه، وليس المراد من بيان قصد السبيل مجرد إعلام أنه مستقيم حتى يصح إسناد أنه جائر إليه تعالى فيحتاج إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوب نكتة، وقد بين ذلك في مواضع غير معدودة بل المراد نصب الأدلة للهداية إليه ولا إمكان لإسناد مثله إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال: وجائرها حتى يصرف ذلك الإسناد منه تعالى إلى غيره سبحانه لنكتة ولا يتوهمه متوهم حتى يقتضي الحال دفع ذلك بأن يقال: لا جائرها ثم يغير سبك النظم عنه لداعية أقوى منه، وذكر أن الجملة اعتراضية حسبما نقلناه سابقا، وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، بيد أن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يراد ببيان السبيل المستقيم وببيان السبيل الجائر نصب الأدلة الدالة على حقية الأول ليهتدى إليه وبطلان الثاني ليحذر ولا يعول عليه وهذا غير مجرد الإعلام الذي ذكره ونسبته إليه تعالى ممكنة بل قال بعضهم: إن الحق أن المعنى على الله تعالى بيان طريق الهداية ليهتدوا إليه وبيان غيرها ليحذروه لكن اكتفى بأحدهما للزوم الآخر له.

[ ص: 105 ] وفي الكشف أن تغاير الأسلوبين على أصل أهل السنة واضح أيضا إذ لا منكر أن الأول هو المقصود لذاته فبيان طريق الضلالة إجمالا قدر ما يمتاز قصد السبيل منه في ضمن بيان قصد السبيل ضرورة وبيانه التفصيلي ليس مما لا بد من وقوعه ولا أن الوعد جرى به على مذهب اهـ فليتأمل، ثم إن الآية منادية على خلاف ما زعمه المعتزلة ومنهم الزجاج من عدم استلزام تعلق مشيئته تعالى بشيء وجوده وقد التجأوا إلى التزام تفسيرها بالقسرية، وقال أبو علي منهم: المعنى لو شاء لهداكم إلى الثواب أو إلى الجنة بغير استحقاق وكل ذلك خلاف الظاهر كما لا يخفى.

التالي السابق


الخدمات العلمية