صفحة جزء
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه ليكفروا بما آتيناهم من النعمة بالغفلة عن منعمها فتمتعوا فسوف تعلمون وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء ويجعلون لما لا يعلمون فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي نصيبا مما رزقناهم فيقولون: هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين، والإشارة في قوله تعالى: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا على ما فيه أيضا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والأنس الآخذة بها إلى حضيرة القدس:


ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت لعادت إليه الروح وانتعش الجسم



وأوحى ربك إلى النحل قيل أي نحل الأرواح أن اتخذي من الجبال أي جبال أنوار الذات بيوتا مقار لـ تسكنين فيها ومن الشجر أي ومن أشجار أنوار الصفات ومما يعرشون أنوار عروش الأفعال ثم كلي من كل الثمرات أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الإفعالية فاسلكي سبل ربك وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه ذللا منقادة لما أمرت به يخرج من بطونها شراب وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه مختلف ألوانه [ ص: 210 ] باختلاف الثمرات فيه شفاء للناس لكل مريض المحبة وسقيم الإلفة ولديغ الشوق، وقيل: الإشارة بالنحل إلى الذين هم في مبادي السلوك من أرباب الاستعداد، ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره حين سئل عنه: نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولا أن يتخذوا مقارا من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروش في الارتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين، وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لا سيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي.

وقال أبو بكر الوراق: النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبل ربها على ما أمرت به جعل لعابها شفاء للناس كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه عز وجل جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق فمن نظر إليه اعتبر ومن سمع كلامه اتعظ ومن جالسه سعد انتهى. وفي الآية إشارة أيضا إلى أنه تعالى قد يودع الشخص الحقير الشيء العزيز فإنه سبحانه أودع النحل وهي من أحقر الحيوانات وأضعفها العسل وهو من ألذ المذوقات وأحلاها فلا ينبغي التقيد بالصور والاحتجاب بالهيئات، وفي الحديث « رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبره ».

وعن يعسوب المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال والله فضل بعضكم على بعض في الرزق قيل: الإشارة فيه إلى تفاوت أرزاق السالكين فرزق بعضهم طاعات، وبعض آخر مقامات وبعض حالات وبعض مكاشفات وبعض مشاهدات وبعض معرفة وبعض محبة وبعض توحيد إلى غير ذلك، وذكروا أن رزق الأشباح العبودية ورزق الأرواح رؤية أنوار الربوبية ورزق العقول الأفكار ورزق القلوب الأذكار ورزق الأسرار حقائق العلوم الغيبية المكشوفة لها في مجالس القرب ومشاهدة الغيب فلا تضربوا لله الأمثال لتقدسه تعالى عن الأوهام والإشارات والعبارات وتنزهه سبحانه عن درك الخليقة فإن الخلق لا يدرك إلا خلقا، ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه: إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها فلا يعرف الله تعالى إلا الله عز وجل. وعلل النهي بقوله تعالى: إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ضرب الله مثلا عبدا مملوكا محبا لغير الله تعالى ولا شك أن المحب أسير بيد المحبوب لا يقدر على شيء لأنه مقيد بوثاق المحبة ومن رزقناه منا رزقا حسنا فجعلناه محبا لنا مقبلا بقلبه علينا متجردا عما سوانا وآتيناه من لدنا علما فهو ينفق منه سرا وذلك من النعم الباطنة وجهرا وذلك من النعم الظاهرة وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا استعداد فيه للنطق وهو مثل المشرك لا يقدر على شيء لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده وهو كل على مولاه لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجة أينما يوجهه لا يأت بخير لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو العدم هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو الموحد القائم بالله تعالى الفاني عن غيره، والعدل على ما قيل: ظل الوحدة في عالم الكثرة وهو على صراط مستقيم صراط العزيز الحميد الذي عليه خاصته تعالى من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع ولله غيب السماوات والأرض علم مراتب الغيوب أو ما غاب من حقيقتهما أو ما خفي فيهما من أمر [ ص: 211 ] القيامة الكبرى وما أمر الساعة أي القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية إلا كلمح البصر أو هو أقرب وهو بناء على التمثيل وإلا فقد قيل: إن أمر الساعة ليس بزماني وما كان كذلك يدركه من يدركه لا في الزمان إن الله على كل شيء قدير ومن ذلك أمر الساعة والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا الآية، قال في أسرار القرآن: أخبر سبحانه أنه أخرجهم من بطون الأقدار وأرحام العدم وأصلاب المشيئة على نعت الجهل لا يعلمون شيئا من أحكام الربوبية وأمور العبودية وأوصاف الأزل فألبسهم أسماعا من نور سمعه وكساهم أبصارا من نور بصره وأودع في قلوبهم علوم غيبته لعلهم يشكرونه انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالأفئدة القلوب.

وذكر بعض من أدركناه من المرتاضين في كتابه الفوائد وشرحه أن مشاعر الإنسان الصدر، والمراد به الخيال والنفس الكلية التي هي محل الصور العلمية كلية أو جزئية فهو محل العلم المقابل للجهل، والقلب وهو محل المعاني واليقين بالنسب الحكمية ويقابله الشك والريب، والفؤاد وهو محل المعارف الإلهية المجرد عن جميع الصور والنسب والأوضاع والإشارات والجهات والأوقات ويقابلها الإنكار وهو أعلى المشاعر، ونور الله تعالى المشار إليه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى ».

وهو الوجود لأنه الجهة العليا من الإنسان أعني وجهه من جهة ربه وبه يعرف الله تعالى وهو في الإنسان بمنزلة الملك في المدينة والقلب بمنزلة الوزير له انتهى، وله أيضا كلام في الأم وكذا في الأب غير ما ذكر، وذلك أنه يطلق الأب على المادة والأم على الصورة، وزعم أن قول الصادق رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه أبوه النور وأمه الرحمة إشارة إلى ذلك وأن ما اصطلح عليه المتقدمون والحكماء من أن الأب هو الصورة والأم هي المادة وأن الصورة إذا نكحت المادة تولد عنهما الشيء توهما منهم أن النشور والخلق في بطن المادة بعيدة من جهة المناسبة إلى آخر ما قال فتفطن وإياك أن تعدل عن الطريق السوي ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح ما يمسكهن من غير تعلق بمادة لا اعتماد على جسم ثقيل إلا الله عز وجل والله جعل لكم مما خلق ظلالا وهو ما يستظل به من وهج نار الحاجة فالماء ظل للعطشان والطعام ظل للجيعان وكل ما يقوم بحاجة شخص ظل له، وفي الخبر السلطان ظل الله تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم، وقيل: الظلال الأولياء يستظل بهم المريدون من شدة حر الهجران ويأوون إليهم من قهر الطغيان، وقد يؤول قوله تعالى: وجعل لكم من الجبال أكنانا بنحو هذا فما أشبه الأولياء بالجبال وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر فيه إشارة إلى ما جعل للعارفين من سرابيل روح الأنس لئلا يحترقوا بنيران القدس وأشار تعالى بقوله جل جلاله: وسرابيل تقيكم بأسكم إلى ما من به من المعرفة والمحبة ليدفع بذلك كيد الشياطين والنفوس كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون تنقادون لأمره سبحانه في العبودية وتخضعون لعز الربوبية، قال ابن عطاء: تمام النعمة السكون إلى المنعم، وقال حمدون: تمامها في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية، وقال أبو محمد الحريري: تمامها خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة [ ص: 212 ] النفس من الرياء والسمعة يعرفون نعمت الله وهي هداية النبي أو وجوده بقوة الفطرة ثم ينكرونها لعنادهم وغلبة صفات نفوسهم وأكثرهم الكافرون لشهادة فطرهم بحقيقته ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا في الاعتذار عن التخلف عن دعوته إذ لا عذر لهم ولا هم يستعتبون لأنهم قد حق عليهم القول بمقتضى استعدادهم نسأل الله تعالى العفو والعافية وألقوا إلى الله يومئذ السلم قيل: هذا في الموقف الثاني حين تضعف غواشي أنفسهم المظلمة وترق حجبها الكثيفة وأما في الموقف الأول حين قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة فلا يستسلمون كما يشير إليه قوله تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم وقيل: المستسلمون بعض والحالفون بعض فافهم والله تعالى أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية