صفحة جزء
ولقد نعلم أنهم يقولون غير ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء إنما يعلمه أي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام قتادة ومجاهد وغيرهما واختير كون الضمير للقرآن ليوافق ضمير ( أنزله ) أي يقولون إنما يعلم القرآن النبي عليه الصلاة والسلام بشر على طريق البت مع ظهور أنه نزله روح القدس عليه عليه الصلاة والسلام، وتأكيد الجملة لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد، وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم [ ص: 233 ] بحسب الاستمرار التجددي في متعلقه فإنهم مستمرون على التفوه بتلك العظيمة، وفي البحر أن المعنى على المضي فالمراد علمنا وعنوا بهذا البشر قيل: جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي وكان قد قرأ التوراة والإنجيل وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة فقالوا ما قالوا.

وروي ذلك عن السدي، وقيل: مولى لحويطب بن عبد العزى اسمه عائش أو يعيش كان يقرأ الكتب وقد أسلم وحسن إسلامه قاله الفراء والزجاج ، وقيل: أبا فكيهة مولى لامرأة بمكة قيل اسمه يسار وكان يهوديا قاله مقاتل وابن جبير إلا أنه لم يقل كان يهوديا.

وأخرج آدم بن أبي إياس والبيهقي وجماعة عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان نصرانيان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار وللآخر جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن الإنجيل فربما مر بهما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهما يقرءان فيقف ويستمع فقال المشركون: إنما يتعلم منهما، وفي بعض الروايات أنه قيل لأحدهما إنك تعلم محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لا بل هو يعلمني. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان بمكة غلام أعجمي رومي لبعض قريش يقال له: بلعام وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمه الإسلام فقالت قريش: هذا يعلم محمدا عليه الصلاة والسلام من جهة الأعاجم.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك أنه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وضعف هذا بأن الآية مكية وسلمان أسلم بالمدينة، وكونها إخبارا بأمر مغيب لا يناسب السباق، ورواية أنه أسلم بمكة واشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقه بها قيل ضعيفة لا يعول عليها كاحتمال أن هذه الآية مدنية.

وقد أخبرني من أثق به عن بعض النصارى أنه قال له: كان نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم يتردد إليه في غار حراء رجلان نصراني ويهودي يعلمانه، ولم أجد هذا عن أحد من المشركين وهو كذب بحت لا منشأ له وبهت محض لا شبهة فيه، وإنما لم يصرح باسم من زعموا أنه يعلمه عليه الصلاة والسلام مع أنه أدخل في ظهور كذبهم للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلى الله تعالى عليه وسلم إلى التعلم من شخص معين بل من البشر كائنا من كان مع كونه عليه الصلاة والسلام معدنا لعلوم الأولين والآخرين لسان الذي يلحدون إليه أعجمي اللسان مجاز مشهور عن التكلم، والإلحاد الميل يقال: لحد وألحد إذا مال عن القصد، ومنه لحد القبر لأنه حفرة مائلة عن وسطه، والملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، والأعجمي الغير البين، قال أبو الفتح الموصلي: تركيب ع ج م في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد البيان والإيضاح، ومنه قولهم: رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان وعجم الزبيب سمي بذلك لاستتاره واختفائه ويقال للبهيمة العجماء لأنه لا توضح ما في نفسها وسموا صلاتي الظهر والعصر العجماوين لأن القراءة فيهما سر وأما قولهم: أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته كأشكيت زيدا أزلت شكواه، والأعجمي والأعجم الذي في لسانه عجمة من العجم كان أو من العرب، ومن ذلك زياد الأعجم وكان عربيا في لسانه لكنة وكذاك حبيب الأعجمي تلميذ الحسن البصري قدر الله تعالى سرهما على ما رأيته في بعض التواريخ.

والمراد من ( الذي ) على القول بتعدد من زعموا نسبة التعليم إليه الجنس ومفعول ( يلحدون ) محذوف أي تكلم الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه أي ينسبون التعليم إليه غير بين لا يتضح المراد منه.

وظاهر كلام ابن عطية أن اللسان على معناه الحقيقي وهو الجارحة المعروفة. وقرأ الحسن «اللسان الذي» بتعريف [ ص: 234 ] اللسان بأل ووصفه بالذي. وقرأ حمزة والكسائي وعبد الله بن طلحة والسلمي والأعمش «يلحدون» بفتح الياء والحاء من لحد، وألحد ولحد لغتان فصيحتان مشهورتان وهذا القرآن الكريم لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة على ما يشعر به وصفه- بمبين- بعد وصفه- بعربي- والكلام على حذف مضاف عند ابن عطية أي سرد لسان أو نطق لسان، والجملتان مستأنفتان عند الزمخشري لإبطال طعنهم، وجوز أبو حيان أن يكونا حالين من فاعل ( يقولون ) ثم قال: وهو أبلغ من الإنكار أي يقولون هذا والحال أن علمهم بأعجمية هذا البشر وعربية هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم عن مثل تلك المقالة كقولك: أتشتم فلانا وهو قد أحسن إليك وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف لأن مجيء الاسمية حالا بدون واو شاذ عنده، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء إذ مجيئها كذلك في كلام العرب أكثر من أن يحصى اه، وتقرير الإبطال- كما قال العلامة البيضاوي- يحتمل وجهين: أحدهما أن ما يسمعه من ذلك البشر كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل فكيف يكون ما تلقفه منه. وثانيهما هب أنه تعلم منه المعنى باستماع كلامه ولكن لم يلقف منه اللفظ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة فكيف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع منه بعض المنقولات بكلمات أعجمية لعله لم يعرف معناها، وحاصل ذلك منع تعلمه عليه الصلاة والسلام منه مع سنده ثم تسليمه باعتبار المعنى إذ لفظه مغاير للفظ ذلك بديهية فيكفي دليلا له ما أتى به من اللفظ المعجز ويمكن تقريره بنحو هذا على سائر الأقوال السابقة في البشر، وقال الكرماني: المعنى أنتم أفصح الناس وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا وقد عجزتم وعجز جميع العرب عن الإتيان بمثله فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن وهو كما ترى، وبالجملة التشبث في أثناء الطعن بمثل هذه الخرافات الركيكة دليل قوي على كمال عجزهم فقد راموا اجتماع اليوم والأمس واستواء السها والشمس:


فدعهم يزعمون الصبح ليلا أيعمى الناظرون عن الضياء



التالي السابق


الخدمات العلمية