صفحة جزء
وكل إنسان منصوب على حد ( كل شيء ) أي: وألزمنا كل إنسان مكلف ألزمناه طائره أي: عمله الصادر منه باختياره حسبما قدر له خيرا كان أو شرا كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر، وفي الكشاف أنهم كانوا يتفاءلون بالطير ويسمونه زجرا، فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحا بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا، وإن مر بارحا بأن مر من جهة اليمين إلى الشمال تشاءموا؛ ولذا سمي تطيرا، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير استعارة تصريحية لما يشبههما من قدر الله تعالى وعمل العبد لأنه سبب للخير والشر.

ومنه طائر الله تعالى لا طائرك؛ أي: قدر الله جل شأنه الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، وقد كثر فعلهم ذلك حتى فعلوه بالظباء أيضا وسائر حيوانات الفلا، وسموا كل ذلك تطيرا كما في البحر، وتفسيره بالعمل هنا مروي عن ابن عباس ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد وذهب إليه غير واحد، وفسره بعضهم بما وقع للعبد في القسمة الأزلية الواقعة حسب استحقاقه في العلم الأزلي من قولهم: طار إليه سهم كذا، ومن ذلك: فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون، أي: ألزمنا كل إنسان نصيبه وسهمه الذي قسمناه له في الأزل في عنقه تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط وعلى ذلك جاء قوله: إن لي حاجة إليك فقال: بين أذني وعاتقي ما تريد. وتخصيص العنق لظهور ما عليه من زائن كالقلائد والأطواق أو شائن كالأغلال والأوهاق، ولأنه العضو الذي يبقى مكشوفا يظهر ما عليه وينسب إليه التقدم والشرف، ويعبر به عن الجملة وسيد القوم، فالمعنى: ألزمناه غله بحيث لا يفارقه أبدا، بل يلزمه لزوم القلادة والغل لا ينفك عنه بحال.

وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن النطفة التي يخلق منها النسمة تطير في المرأة أربعين يوما وأربعين ليلة فلا يبقى منها شعر ولا بشر ولا عرق ولا عظم إلا دخلته حتى إنها لتدخل بين الظفر واللحم، فإذا مضى أربعون ليلة وأربعون يوما أهبطها الله تعالى إلى الرحم فكانت علقة أربعين يوما وأربعين ليلة ثم تكون مضغة أربعين يوما وأربعين ليلة فإذا تمت لها أربعة أشهر بعث الله تعالى إليها ملك الأرحام فيخلق على يده لحمها ودمها وشعرها وبشرها، ثم يقول سبحانه: صور فيقول: يا رب، أصور أزائد أم ناقص؟ أذكر أم أنثى؟ أجميل أم ذميم؟ أجعد أم سبط؟ أقصير أم طويل؟ أأبيض أم آدم؟ أسوي أم غير سوي؟ [ ص: 32 ] فيكتب من ذلك ما يأمر الله تعالى به ثم يقول: أي رب، أشقي أم سعيد؟ فإن كان سعيدا نفخ فيه بالسعادة في آخر أجله، وإن كان شقيا نفخ فيه بالشقاوة في آخر أجله، ثم يقول: اكتب أثرها ورزقها ومصيبتها وعملها بالطاعة والمعصية. فيكتب من ذلك ما يأمره الله تعالى ثم يقول الملك: يا رب، ما أصنع بهذا الكتاب فيقول سبحانه: علقه في عنقه إلى قضائي عليه».

فذلك قوله تعالى: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه .

ولا يخفى أن الظاهر من هذا الخبر أن ذكر العنق ليس للتصوير المذكور، وأن الطائر عبارة عن الكتاب الذي كتب فيه ما كتب.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس أنه فسره بذلك صريحا، وباب المجاز واسع، ونحن نؤمن بالحديث إذا صح ونفوض كيفية ما دل عليه إلى اللطيف الخبير جل جلاله، والظاهر منه أيضا عدم تقييد الإنسان بالمكلف، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب القدر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وآخر الآية ظاهر في التقييد.

وقرأ مجاهد والحسن وأبو رجاء: (طيره) وقرئ: (عنقه) بسكون النون ونخرج له يوم القيامة والبعث للحساب كتابا هي صحيفة عمله، ونصبه على أنه مفعول ( نخرج ) وجوز أن يكون حالا من مفعول ل (نخرج) محذوف وهو ضمير عائد على الطائر أي: نخرجه له حال كونه كتابا، ويعضد ذلك قراءة يعقوب ومجاهد، وابن محيصن: (ويخرج) بالياء مبنيا للفاعل من خرج يخرج ونصب كتابا فإن فاعله حينئذ ضمير الطائر وكتابا حال منه، والأصل توافق القراءتين، وكذا قراءة أبي جعفر: (ويخرج) بالياء مبنيا للمفعول من أخرج ونصب كتابا أيضا، ووجه كونها عاضدة أن في (يخرج) حينئذ ضميرا مستترا هو ضمير الطائر وقد كان مفعولا، واحتمال أن يكون (له) نائب الفاعل فلا تعضد لا يلتفت إليه؛ لأن إقامة غير المفعول مع وجوده مقام الفاعل ضعيفة، وليس ثمة ما يكون كتابا حالا منه فيتعين ما ذكر كما قاله ابن يعيش في شرح المفصل، وعنه أيضا أنه قرئ: (يخرج) بالبناء للمفعول أيضا ورفع (كتاب) على أنه نائب الفاعل، وقرأ الحسن: (يخرج) بالبناء للفاعل من الخروج ورفع (كتاب) على الفاعلية، وقرأت فرقة: (ويخرج) بالياء من الإخراج مبنيا للفاعل وهو ضمير الله تعالى وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة.

وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن هارون قال في قراءة أبي بن كعب: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه يقرأه يوم القيامة كتابا يلقاه أي يلقى الإنسان أو يلقاه الإنسان منشورا غير مطوي لتمكن قراءته وفيه إشارة إلى أن ذلك أمر مهيأ له غير مغفول عنه. وجملة: يلقاه صفة (كتابا) و منشورا حال من ضميره، وجوز أن يكونا صفتين له، وفي تقدم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف عنه: (يلقاه) بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقيته كذا أي: يلقى الإنسان إياه.

وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال: يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك في قبرك حتى تجيء يوم القيامة فتخرج لك.

التالي السابق


الخدمات العلمية