صفحة جزء
وربك أعلم بمن في السماوات والأرض وبأحوالهم الظاهرة والباطنة فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن تراه حكمته أهلا لذلك وهو رد عليه إذ قالوا: بعيد أن يكون يتيم ابن أبي طالب نبيا وأن يكون العراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديد.

وذكر من في السموات لإبطال قولهم لولا أنزل علينا الملائكة وذكر من في الأرض لرد قولهم: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فلا يدل تخصيصهما بالذكر وتعلقهما بأعلم بعلى اختصاص أعلميته تعالى بما ذكر فما قاله أبو علي من أن الجار متعلق بعلم محذوفا ولا يجوز تعلقه بأعلم لاقتضائه أنه سبحانه ليس بأعلم بغير ذلك ناشئ عن عدم العلم بما ذكرنا على أن أبا حيان أنكر تعدي علم بالباء وإنما يتعدى لواحد بنفسه في مثل هذا الموضع.

ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض بالفضائل النفسانية والمزايا القدسية وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع وآتينا داود زبورا بيان لحيثية تفضيله عليه الصلاة والسلام وأنه بإيتائه الزبور لا بإيتائه الملك والسلطنة وفيه إيذان بتفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم مما تضمنه الزبور وقد أخبر سبحانه عن ذلك بقوله عز قائلا: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته ونص بعضهم أن هذا من باب التلميح نحو قصة المنصور وقد وعد الهذلي بعدة فنسيها فلما حجا وأتيا المدينة قال له يوما وهو يسايره: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص: يا بيت عاتكة الذي أتغزل؛ ففطن لمراده حيث قال ذلك ولم يسأله وعلم أنه يشير إلى قوله في هذه القصيدة:


وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق اللسان يقول ما لا يفعل



فأنجز عدته، والزبور في الأصل وصف للمفعول كالحلوب أو مصدر كالقبول، نعم هذا الوزن في المصادر قليل والأكثر ضم الفاء وبه قرأ حمزة وجعله بعضهم على هذه القراءة جمع زبر بكسر الزاي بمعنى مزبور ثم جعل علما للكتاب المخصوص وليس فيه من الأحكام شيء.

أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: الزبور ثناء على الله عز وجل ودعاء وتسبيح، وأخرج هو وابن جرير عن قتادة قال: كنا نحدث أن الزبور دعاء علمه داود عليه السلام وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود. والذي تدل عليه بعض الآثار اشتماله على بعض النواهي والأوامر.

فقد روى ابن أبي شيبة أنه مكتوب فيه: أني أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك، قلوب الملوك بيدي فأيما قوم كانوا على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة، وأيما قوم كانوا على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولا تتوبوا إليهم وتوبوا إلي أعطف قلوبهم عليكم.

والمزامير التي يفهم منها الأمر والنهي كثيرة فيه كما لا يخفى على من رآه، ومع هذا الفرق [ ص: 96 ] بينه وبين التوراة ظاهر، ودخول أل عليه في بعض الآيات للمح الأصل وذلك لا ينافي العلمية كما في العباس والفضل.

وجوز أن يكون نكرة غير علم ونكر ليفيد أنه بعض من الكتب الإلهية أو من مطلق الكتب ولا إشكال أيضا في دخول أل عليه؛ أي: آتيناه زبورا من الزبر، وجوز أن يكون مختصا بكتاب داود عليه السلام وليس بعلم بل من غلبة اسم الجنس وهو كالقرآن يطلق على المجموع وعلى الأجزاء، وتقدم إفادة التنكير للبعضية في قوله تعالى: ( ليلا ) فيجوز أن يكون المراد هنا آتيناه بعضا من الزبور فيه ذكره صلى الله عليه وسلم، هذا ووجه ربط الآيات بما تقدم على هذا التفسير على ما في الكشف أنه تعالى لما أرشد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى جواب الكفار بجده في استهزائهم وتوقره في استخفافهم ليكون أغيظ لهم وأشجى لحلوقهم أرشده إلى أن يحمل أصحابه أيضا على ذلك وأن يستنوا بسنته وعلل ذلك بما اعترض به من أن الشيطان بنزغه يحمل على المخاشنة فعلى العاقل الحازم أن لا يغتر بوساوسه كيف وقد تبين له أنه عدو مبين.

وقوله تعالى: وما أرسلناك عليهم وكيلا متعلق بجميع السابق من قوله تعالى: قل كونوا المشتمل على مجادلته بالتي هي أحسن وقل لعبادي المشتمل على حملهم عليها إلى قوله سبحانه: أو إن يشأ يعذبكم وقوله عز وجل: وربك أعلم بمن في السماوات والأرض من تتمة إن تتبعون إلا رجلا مسحورا فإنهم طعنوا فيه وحاشاه تارة بأنه شاعر ساحر مجنون وأخرى بنحو لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم و لو كان خيرا ما سبقونا إليه فأجيب عن الأول بما أجيب وعن الثاني بقوله سبحانه: وربك أعلم وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى: ربكم أعلم إلخ للمؤمنين. وروي ذلك عن الكلبي، وأخرج الأول ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج والمعنى أنه تعالى إن يشأ يرحمكم أيها المؤمنون في الدنيا بإنجائكم من الكفرة ونصركم عليهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم والمراد بالتي هي أحسن المجادلة الحسنة فكأنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول للمؤمنين: إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا الدلائل بالطريق الأحسن وهو أن لا يكون ذلك ممزوجا بالشتم والسب؛ لأنه لو اختلط به لا يبعد أن يقابل بمثله فيزداد الغضب ويهيج الشر فلا يحصل المقصود، وأشار سبحانه إلى ذلك بقوله عز قائلا: إن الشيطان إلخ. وضمير بينهم إما للكفار أو للفريقين، وروي أن المشركين أفرطوا في إيذاء المؤمنين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: شتم عمر رجل فهم رضي الله تعالى عنه به فأمره الله تعالى بالعفو. قال في الكشف إنه على هذين القولين الكلمة التي هي أحسن نحو: يهديكم الله تعالى وليست مفسرة بربكم أعلم بكم.

وقوله سبحانه: إن الشيطان ينزغ تعليل للأمر بالاحتمال بأن المخاشنة من فعل الشيطان. والخطاب في قوله تعالى: ربكم أعلم بكم للمؤمنين، وفيه حث على المداراة أي: فداروهم؛ لأن ربكم أعلم بكم وبما يصلح لكم من أوامر إن يشأ يرحمكم بقبول أوامره ونواهيه أو إن يشأ يعذبكم بإبائكم أو إن يشأ يرحمكم بالملاينة والتراحم؛ لأنه سبب السلامة عن أذى الكفار أو إن يشأ يعذبكم بمخاشنتكم في غير إبانها، وما أرسلناك عليهم وكيلا فهؤلاء المؤمنون وهم أتباعك أولى وأولى بأن لا يكونوا وكيلا عليهم، ثم قال: والأول أوفق لتأليف النظم وفي إفادة ربكم أعلم بكم الحث على ما قرر تكلف ما اه.

وقيل: المراد من عبادي الكفار وحيث كان المقصود من الآيات الدعوة لا يبعد أن يعبر عنهم بذلك ليصير سببا لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين الحق فكأنه قيل: قل يا محمد لعبادي الذين أقروا بكونهم عبادا لي: يقولوا التي هي [ ص: 97 ] أحسن وهي الكلمة الحقة الدالة على التوحيد وإثبات القدرة على البعث وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على المذهب الباطل تعصبا للأسلاف؛ فإن ذلك من الشيطان وهو للإنسان عدو مبين فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله، والمراد من الأمر بالقول الأمر باعتقاد ذلك، وذكر القول لما أنه دليل الاعتقاد ظاهرا ثم قال لهم سبحانه: ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم بالهداية أو إن يشأ يعذبكم بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ولا تصروا على الباطل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية، ثم قال سبحانه: وما أرسلناك عليهم وكيلا أي: لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم بالقول، والمقصود من كل ذلك إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة لأنه أقرب لحصول المقصود، ثم إنه تعالى عمم علمه بقوله: وربك أعلم إلخ. ويحسن على هذا ما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن سيرين من تفسير: التي هي أحسن بلا إله إلا الله، ونقل ذلك ابن عطية عن فرقة من العلماء ثم قال: ويلزم عليه أن يراد بعبادي جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى قول لا إله إلا الله ويجيء قوله سبحانه: إن الشيطان ينزغ بينهم غير مناسب إلا على معنى ينزغ خلالهم وأثناءهم ويفسر النزغ بالوسوسة والإملال ولا يخفى أنه في حيز المنع، وما ذكر من الدليل لا يتم إلا إذا لم يكن للتخصيص نكتة، وهي هاهنا ظاهرة ويكون قوله تعالى:

التالي السابق


الخدمات العلمية