صفحة جزء
ثم إنه تعالى بعد أن ذكر كيد الكفار وسلى نبيه عليه الصلاة والسلام بما سلى أمره أن يقبل على شأنه من عبادة ربه تعالى شأنه. ووعده بما يغبطه عليه كل الخلق ويتضمن ذلك إرشاده إلى أن لا يشغل قلبه بهم أو أنه سبحانه بعد أن قدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات أمر بأشرف العبادات بعد الإيمان وهي الصلاة فقال جل وعلا: أقم الصلاة أي المفروضة لدلوك الشمس أي: لزوالها عن دائرة نصف النهار، وهو المروي عن عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس في رواية، وأنس وأبي برزة الأسلمي والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد، ورواه الإمامية عن أبي جعفر، وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وخلق آخرين.

وأخرج ابن جرير وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن مردويه في تفسيره، والبيهقي في المعرفة عن أبي مسعود عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر» وقيل لغروبها وهو المروي عندنا عن علي [ ص: 132 ] كرم الله تعالى وجهه.

وأخرجه ابن مردويه والطبراني والحاكم وصححه، وغيرهم عن ابن مسعود، وابن المنذر وغيره عن ابن مسعود، وروي عن زيد بن أسلم والنخعي والضحاك والسدي، وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة، وأنشد لذي الرمة:


مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالأفلاك الدوالك



وأصل مادة د ل ك تدل على الانتقال، ففي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها وكذا في الدلك المعروف انتقال اليد من محل إلى آخر بل كل ما أوله دال ولام مع قطع النظر عن آخره يدل على ذلك كدلج بالجيم من الدلجة وهي سير الليل، وكذا دلج بالدلو إذا مشى بها من رأس البئر للمصب، ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشيا متثاقلا ودلع بالعين المهملة إذا أخرج لسانه، ودلف بالفاء إذا مشى مشية المقيد، وبالقاف إذا أخرج المائع من مقره، ووله إذا ذهب عقله وفيه انتقال معنوي إلى غير ذلك، وهذا المعنى يشمل كلا المعنيين السابقين وإن قيل: إن الانتقال في الغروب أتم؛ لأنه انتقال من مكان إلى مكان ومن ظهور إلى خفاء وليس في الزوال إلا الأول، وقيل: إن الدلوك مصدر مزيد مأخوذ من المصدر المجرد؛ أعني الدلك المعروف وهو أظهر في الزوال؛ لأن من نظر إلى الشمس حينئذ يدلك عينه ويكون على هذا في دلوك الشمس تجوز عن دلوك ناظرها، وقد يستأنس في ترجيح القول الأول مع ما سبق بأن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم نهار ليلة الإسراء الظهر، وقد صح أن جبريل عليه السلام ابتدأ بها حين علم النبي عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة في يومين، وقال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها، فالأمر بإقامة الصلاة لدلوكها أمر بصلاتين الظهر والعصر، وعلى القولين الآخرين أمر بصلاة واحدة الظهر أو العصر، واللام للتأقيت متعلقة بأقم، وهي بمعنى بعد كما في قول متمم بن نويرة يرثي أخاه:


فلما تفرقنا كأني ومالكا     لطول اجتماع لم نبت ليلة معا



ومنه: كتبته لثلاث خلون من شهر كذا، وتكون بمعنى عند أيضا، وقال الواحدي: هي للتعليل؛ لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة.

إلى غسق الليل أي: إلى شدة ظلمته، كما قال الراغب وغيره وهو وقت العشاء.

وأخرج ابن الأنباري في الوقف عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني ما الغسق؟ فقال: دخول الليل بظلمته، وأنشد قول زهير بن أبي سلمى:


ظلت تجود يداها وهي لاهية     حتى إذا جنح الإظلام والغسق



وقال النضر بن شميل: غسق الليل دخول أوله، قال الشاعر:


إن هذا الليل قد غسقا     واشتكيت الهم والأرقا



وهو عنده وقت المغرب، وروي ذلك عن مجاهد، وأصله من السيلان؛ يقال: غسقت العين تغسق إذا هملت بالماء كأن الظلمة تنصب على العالم، وقيل: المراد من غسق الليل ما يعم وقتي المغرب والعشاء وهو ممتد إلى الفجر كما أن المراد بدلوك الشمس ما يعم وقتي الظهر والعصر ففي الآية بدخول الغاية تحت المغيا وبضم ما بعد إشارة إلى أوقات الصلوات الخمس، واختاره جماعة من الشيعة واستدلوا بها على أن وقت الظهر موسع إلى غروب الشمس، ووقت المغرب موسع إلى انتصاف الليل، وهي أحد أدلة الجمع في الحضر بلا عذر الذي ذهبوا إليه وأبدوا ذلك مما رواه العياشي بإسناده عن عبيدة، وزرارة عن أبي عبد الله أنه قال في هذه الآية: إن الله [ ص: 133 ] تعالى افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه ومنها صلاتان أول وقتهما غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه وهو مرتضى المرتضى في أوقات الصلاة.

والمعتمد عليه عند جمهور المفسرين أن دلوك الشمس وقت الظهر، وغسق الليل وقت العشاء كما ينبئ عنه إقحام الغسق وعدم الاكتفاء بإلى الليل، والجار والمجرور متعلق بأقم، وأجاز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من الصلاة، أي: ممدودة إلى الليل والأول أولى، وليس المراد بإقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين على وجه الاستمرار بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة التي لم يروها - من شهد - أحد من الأئمة الطاهرين بزندقتهم ونجاسة بواطنهم، كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه الصلاة والسلام، ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلاة من غير فصل بينها لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف وقت العشاء والفجر؛ فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم عادة ينقطع أحدهما عن الآخر، ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات، ثم إن المستدل من الشيعة بالآية لا يتم له الاستدلال بها على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء ما لم يضم إلى ذلك شيئا من الأخبار فإنها إذا لم يضم إليها ذلك أولى بأن يستدل بها على جواز الجمع بين الأربعة جميعها لا بين الاثنتين والاثنتين، ولا يخفى ما في الاستدلال بها على هذا المطلب؛ ولذا لم يرتضه أبو جعفر منهم، نعم ما ذهبوا إليه مما يؤيده ظواهر بعض الأحاديث الصحيحة كحديث ابن عباس وهو في صحيح مسلم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جمعا بالمدينة.

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثمانيا جميعا وسبعا جميعا من غير خوف ولا سفر.

واختلف في تأويله؛ فمنهم من أوله بأنه جمع بعذر المطر والجمع بسبب ذلك تقديما وتأخيرا مذهب الشافعي في القديم وتقديما فقط في الجديد بالشرط المذكور في كتبهم، وخص مالك جواز الجمع بالمطر في المغرب والعشاء، وهذا التأويل مشهور عن جماعة من الكبار المتقدمين وهو ضعيف لما في صحيح مسلم عنه أيضا: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر،وكون المراد ولا مطر كثير لا يرتضيه ذو إنصاف قليل، والشذوذ غير مسلم، ومنهم من أوله بأنه كان في غيم فصلى صلى الله عليه وسلم الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن أول وقت العصر دخل فصلاها، وفيه أنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر إلا أنه لا احتمال في المغرب والعشاء، ومنهم من أوله بأنه عليه الصلاة والسلام أخر الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت الصورة صورة جمع، وفيه أنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، ويرده أيضا ما صح عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، فجاء رجل من بني تميم فجعل لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة لا أم لك، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته، ومنهم من قال: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار وهذا قول الإمام أحمد والقاضي حسين من الشافعية واختاره منهم الخطابي والمتولي والروياني.

وقال النووي: هو المختار في التأويل، ومذهب جماعة من الأئمة جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه [ ص: 134 ] عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الإمام الشافعي، وعن أبي إسحق المروزي، وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر ما صح عن ابن عباس ورواه مسلم أيضا أنه لما قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر قيل له: لم فعل ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته وهو من الحرج بمعنى المشقة، فلم يعلله بمرض ولا غيره، ويعلم مما ذكرنا أن قول الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ناشئ من عدم التتبع. نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح؛ فقد صرحوا بأنه حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه.

وقال ابن الهمام: إن حديث ابن عباس معارض بما في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى».

وللبحث في ذلك مجال.

ومذهب الإمام أبي حنيفة عدم جواز جمع صلاتي الظهر والعصر في وقت إحداهما والمغرب والعشاء كذلك مطلقا إلا بعرفات فيجمع فيها بين الظهر والعصر بسبب النسك وإلا بمزدلفة فيجمع فيها بين المغرب والعشاء بسبب ذلك أيضا، واستدل بما استدل. وفي الصحيحين وسنن أبي داود وغيره ما لا يساعده على التخصيص، وأنت تعلم أن الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام رضي الله تعالى عنه فالمحتاط لا يخرج صلاة الظهر مثلا عن وقتها المتيقن الذي لا خلاف فيه إلى وقت فيه خلاف، وقد صرح غير واحد بأنه إذا وقع التعارض يقدم الأحوط، وتعارض الأخبار في هذا الفصل مما لا يخفى على المتتبع، هذا وزعم بعضهم أن المراد بالصلاة المأمور بإقامتها صلاة المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدأ وقتها ومنتهاه على أن الغاية خارجة، واستدل به على امتداده إلى غروب الشفق وهو خلاف ما ذهب إليه الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجديد من أنه ينقضي بمضي قدر زمن وضوء وغسل وتيمم، وطلب خفيف وإزالة خبث مغلظ يعم البدن والثوب والمحل وستر عورة واجتهاد في القبلة وأذان وإقامة، وألحق بهما سائر سنن الصلاة المتقدمة كتعمم وتقمص ومشي لمحل الجماعة وأكل جائع حتى يشبع وسبع ركعات، ولعل الزمان الذي يسع كل هذا يزيد على زمن ما بين غروب الشمس وغروب الشفق؛ أي شفق كان في أكثر الإعراض، ثم لا يخفى أنه إذا كان المراد من غسق الليل وقت العشاء وفسر الغسق باجتماع الظلمة وشدتها كان ذلك مؤيدا لما في ظاهر الرواية عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من أن أول وقت العشاء حين يغيب الشفق بمعنى البياض الذي يعقب الخمرة في الأفق الغربي لأن الظلمة لا تجتمع ولا تشتد ما لم يغب، ولا يأبى ذلك أن الأحاديث الصحيحة صريحة في أن أول وقتها حين يغيب الشفق وهو في اللغة الحمرة المعلومة لأن تفسيره بالبياض قد جاء أيضا، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر ومعاذ بن جبل وعائشة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ورواه عبد الرازق عن أبي هريرة وعن عمر بن عبد العزيز، وبه قال الأوزاعي والمزني وابن المنذر والخطابي، واختاره المبرد وثعلب، وما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول وقت العشاء حين يغيب الأفق».

ظاهر في كون الشفق البياض إذ لا غيبوبة للأفق إلا بسقوطه، نعم ذهب [ ص: 135 ] صاحباه إلى أنه الحمرة وهو قول ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، ورواه أسد بن عمرو عن الإمام أيضا لكنه خلاف ظاهر الرواية عنه، والصحيح المفتى به عندنا ما جاء في ظاهر الرواية، وقد نص على ذلك المحقق ابن الهمام والعلامة قاسم وابن نجيم وغيرهما، وما قاله الإمام أبو المفاخر من أن الإمام رجع إلى قولهما وقال: إنه الحمرة لما ثبت عنده من حمل عامة الصحابة إياه على ذلك وعليه الفتوى وتبعه المحبوبي وصدر الشريعة ليس بشيء لأن الرجوع لم يثبت ودون إثباته مع نقل الكافة عن الكافة خلافه خرط القتاد، وكذا دعوى حمل عامة الصحابة خلاف المنقول كما سمعت حتى أن البيهقي لم يرو أن الشفق الحمرة إلا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

وما رواه الدارقطني عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشفق الحمرة فإذا غاب وجبت الصلاة».

قال البيهقي والنووي فيه الصحيح أنه موقوف على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ومثل هذا الاختلاف الاختلاف في أول وقت العصر فقال الإمام: هو إذا صار ظل كل شيء مثليه بعد ظل الزوال وقالا: إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وفتوى المحققين على قوله رحمة الله تعالى عليه بل قال ابن نجيم: إن الإفتاء بغيره لا يجوز وقد أطال الكلام في ذلك في رسالته: رفع الغشاء عن وقتي العصر والعشاء.

وقرآن الفجر عطف على مفعول: «أقم» أو نصب على الإغراء كما قال الزجاج وأبو البقاء والجمهور على الأول، والمراد بقرآن الفجر صلاته كما روي عن ابن عباس ومجاهد، وسميت قرآنا أي قراءة لأنها ركنها كما سميت ركوعا وسجودا وهذه حجة على ابن علية. والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن في الصلاة قاله في الكشاف ورد بأن ذلك لا يدل على الركنية لجواز كون مدار التجوز كون القراءة مندوبة فيها وفي الكشف أنه مدفوع بأن العلاقة المعتبرة في إطلاق غير الصلاة وإرادة الصلاة هي علاقة الكل والجزء بدليل النظائر وهاهنا إذ ورد تجوزا فحمله على معلوم النظير من الاستقراء واجب على أن الندبية لا تصلح علاقة معتبرة إلا بالتكلف، وجعل سبح بمعنى صلى لأن التسبيح بمعنى التنزيه البالغ والمصلي مسبح قولا بقراءة الفاتحة بل بالتكبير الواجب بالاتفاق وفعلا أيضا بالركوع والسجود مثلا الدالين على كمال التعظيم والتبجيل فهو الركن كله لا لأن التسبيح بمعنى قول: سبحان الله ليقال: تجوز عن الصلاة بما هو مندوب فيها، وتعقب بأن الاكتفاء بعلاقة الندبية التي يقول بها الأصم وابن علية لا تكلف فيه؛ فإن القرآن جزء من الصلاة الكاملة فيكون ذلك كالنظائر بلا ضرر ولا ضير، وبأن مذهبهما في التكبير غير معلوم فدعوى الاتفاق غير مسلمة منه، ولو كان كما ذكره لكان الوجوب كافيا في علاقة أخرى وهي اللزوم وفيه بحث.

وأبقى الجصاص القرآن على حقيقته وقال: في الآية دلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر لأن التقدير فيها: وأقم قرآن الفجر، والأمر للوجوب ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة، وزعم أن كون المعنى: صلوا الفجر غلط من وجهين: الأول: أنه صرف عن الحقيقة بغير دليل، والثاني أن فتهجد به فيما بعد يأباه؛ إذ لا معنى للتهجد بصلاة الفجر، وفيه أن الدليل قائم وهو أقم لاشتهار أقم الصلاة دون أقم القراءة، وضمير «به» فيما بعد يجوز أن يرجع إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى ثم متى دلت الآية على وجوب القراءة في صلاة الفجر نصا كان ثبوت وجوبها في غيرها من الصلاة قياسا، وذكر [ ص: 136 ] بعضهم أن في التعبير عن صلاة الفجر بخصوصها بما ذكر إشارة إلى أنه يطلب فيها من تطويل القراءة ما لم يطلب في غيرها وهو حسن، وقال الإمام: إن في الآية دلالة على أنه يسن التغليس في صلاة الفجر لأنه أضيف فيها القرآن إلى الفجر على معنى أقم قرآن الفجر، والأمر للوجوب، والفجر أول طلوع الصبح لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح حينئذ، ولذلك سمي الفجر فجرا فيقتضي ذلك وجوب إقامة صلاة الفجر أول الطلوع وحيث أجمع على عدم وجوب ذلك بقي الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب كالإجماع هنا وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تقل مخالفة الدليل.

وأنت تعلم ما للعلماء من الخلاف في الباقي بعد رفع الوجوب، وما ذكر قول في المسألة لكنه لا يفيد المطلوب؛ لأن صلاة الفجر اسم للصلاة المخصوصة سواء وقعت بغلس أم إسفار، والأخبار الصحيحة تدل على سنية الإسفار بها.

كخبر الترمذي وهو كما قال: حسن صحيح «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر».

وحمله على تبين الفجر حتى لا يكون شك في طلوعه ليس بشيء؛ إذ ما لم يتبين لا يحكم بجواز الصلاة فضلا عن إصابة الأجر المفاد بآخر الخبر ولو حمل أعظم فيه على عظيم ورد أن المناسب في التعليل فإنه لا تصح الصلاة بدونه على أنه على ما فيه ينفيه رواية الطحاوي: أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم الأجر أو لأجوركم أو كما قال، وروي بسنده الصحيح عن إبراهيم قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير، ومحال نظرا إلى علو شأنهم أن يجتمعوا على خلاف ما فارقهم عليه حبيبهم رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود: وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لميقاتها إلا صلاتين؛ صلاة المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها مع أنه كان بعد الفجر كما يفيده لفظ البخاري.

فيكون المراد قبل ميقاتها الذي اعتاد الأداء فيه، والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعتاد التغليس إلا أنه فعله يومئذ ليمتد الوقوف، ونحن نقول بسنيته بفجر جمع لهذا الحديث.

وخبر عائشة رضي الله تعالى عنها: «كان صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح بغلس فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس».

حمل الغلس فيه بعض أصحابنا على غلس داخل المسجد، ويأباه قولها: ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس؛ إذ لا يمكن حمل هذا الغلس المانع من معرفتهن في طريق رجوعهن إلى بيوتهن على غلس داخل المسجد، وكون المراد: ما يعرفهن أحد في داخل المسجد من الغلس خلاف الظاهر على تقدير جعل الجملة حالا من ضمير يرجعن. والظاهر ما أشرنا إليه، وكذا جعل الجملة حالا من «نساء» أو صفة لها كأنه قيل: فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس ثم يرجعن إلى بيوتهن، وقيل: كان ذلك في يوم غيم، ويبعده «كان» فإنها شائعة الاستعمال فيما كان يداوم عليه عليه الصلاة والسلام، وقيل: هو منسوخ كما يدل عليه اجتماع الصحابة على التنوير، ويبعد ذلك أن النسخ يقتضي سابقية وجود المنسوخ، وقول ابن مسعود: ما رأيت... إلخ. يفيد أن لا سابقية له. وقال بعضهم: ترجح في الأخبار المتعارضة هنا رواية الرجال خصوصا مثل ابن مسعود؛ فإن الحال أكشف لهم في صلاة الجماعة فتأمل.

وذكر الطحاوي أن الذي ينبغي الدخول في الفجر وقت التغليس والخروج وقت الإسفار، وهو قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه وهو خلاف ما يذكره الأصحاب عنهم من البدء والختم في الإسفار وهو الذي [ ص: 137 ] يفيده حديث الترمذي وغيره، والله تعالى أعلم، ثم إن صلاة الفجر وإن كانت إحدى الصلوات الخمس التي فرضت ليلة الإسراء عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ودلت هذه الآية على وجوب إقامتها كذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلها صبح تلك الليلة لعدم العلم بكيفيتها حينئذ وإنما علم الكيفية بعد.

وقد قدمنا قريبا أن البداءة وقعت في صلاة الظهر إشارة إلى أن دينه عليه الصلاة والسلام سيظهر على الأديان ظهورها على بقية الصلوات، ونوه سبحانه هنا بشأن صلاة الفجر بقوله عز وجل: إن قرآن الفجر حيث لم يقل سبحانه: «إنه كان مشهودا».

أخرج أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه وجماعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تفسير ذلك: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار».

وفي الصحيحين عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر».

ثم قال أبو هريرة: «اقرؤوا إن شئتم:
وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ».


والمراد بهؤلاء الملائكة الكتبة والحفظة فتنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل وتلتقي الطائفتان في ذلك الوقت، وكذا تلتقي الطائفتان، وأمر النزول والصعود على العكس وقت العصر كما جاء في الآثار، وهذا مما يعكر على الإمام في زعمه أن هذا أيضا دليل قوي على أن التغليس أفضل من التنوير؛ لأن الإنسان إذا شرع في الصلاة من أول الصبح يكون ملائكة الليل حاضرين لبقاء الظلمة فإذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضر ملائكة النهار فإنه يلزمه على هذا البيان الذي لا يروج إلا على الصبيان القول بأن تأخير صلاة العصر إلى أن يزول الضوء وتظهر الظلمة وهو لا يقول به بل لا يقول به أحد.

وهل الطائفة التي تشهد اليوم مثلا تشهد غدا أو كل يوم تشهد طائفة أخرى لم تشهد قبل ولا تشهد بعد؟ فيه خلاف، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيما يتعلق بذلك.

وقيل: يشهد الكثير من المصلين في العادة، وقيل: من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة، وقيل: تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت، وهو احتمال أبداه الإمام وبسط الكلام فيه، ثم قال: وهذا المراد من قوله تعالى: إن قرآن الفجر كان مشهودا ثم ذكر احتمال كون المراد مشهودا بالجماعة الكثيرة وبسط الكلام أيضا في تحقيقه، وأنت تعلم أنه لا وجه للحصر المدلول عليه بقوله: وهذا هو المراد، ثم إبداء ذلك الاحتمال على أنه بعد ما صح تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له بما سمعت لا ينبغي أن يقال في غيره هذا هو المراد، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراما ومتلق كراما فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل ويرتاح له النازل.

التالي السابق


الخدمات العلمية