صفحة جزء
ويسألونك عن الروح الظاهر عند المنصف أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدار البدن الإنساني ومبدأ حياته؛ لأن ذلك من أدق الأمور التي لا يسع أحدا إنكارها ويشرئب كل إلى معرفتها وتتوفر دواعي العقلاء إليها وتكل الأذهان عنها ولا تكاد تعلم إلا بوحي، وزعم ابن القيم أن المسؤول عنه الروح [ ص: 152 ] الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة عليهم السلام قال: لأنهم إنما يسألونه عليه الصلاة والسلام عن أمر لا يعرف إلا بالوحي؛ وذلك هو الروح الذي عند الله تعالى لا يعلمه الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب إلى آخر ما قال وقد أطال، وفي البحور الزاخرة: أن هذا هو الذي عليه أكثر السلف بل كلهم، والحق ما ذكرنا وهو الذي عليه الجمهور كما نص عليه في البحر وغيره.

نعم ما زعمه ابن القيم مروي عن بعض السلف فقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال: الروح خلق من خلق الله تعالى وصورهم على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح ثم تلا: يوم يقوم الروح والملائكة .

وأخرج أبو الشيخ وغيره من طريق عطاء عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال في الروح المسؤول عنه: هو ملك واحد له عشرة آلاف جناح؛ جناحان منها ما بين المشرق والمغرب له ألف وجه لكل وجه لسان وعينان وشفتان يسبح الله تعالى بذلك إلى يوم القيامة.

وأخرج هو وغيره أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال فيه: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها، يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.

وتعقب هذا بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه وطعن الإمام في ذلك بما طعن.

وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن مجاهد أنه قال: الروح خلق من الملائكة عليهم السلام لا يراهم الملائكة كما لا ترون أنتم الملائكة.

وأخرج أبو الشيخ عن سلمان أنه قال: الإنس والجن عشرة أجزاء فالإنس جزء، والجن تسعة أجزاء، والملائكة والجن عشرة أجزاء، فالجن من ذلك جزء، والملائكة تسعة، والملائكة والروح عشرة أجزاء، فالملائكة من ذلك جزء، والروح تسعة أجزاء والروح والكروبيون عشرة أجزاء، فالروح من ذلك جزء، والكروبيون تسعة أجزاء، وقال الحسن وقتادة: الروح هو جبرائيل عليه السلام وقد سمي روحا في قوله تعالى: نزل به الروح الأمين على قلبك والسؤال عن كيفية نزوله وإلقائه الوحي إليه عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم: هو القرآن وقد سمي روحا في قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقيل غير ذلك.

وزعم بعضهم أن السؤال عن حدوث الروح بالمعنى الأول وقدمه وليس بشيء كما ستسمع إن شاء الله تعالى.

وضمير يسألون لليهود؛ فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. وقال بعضهم: لا تسألوه. فسألوه فقالوا: يا محمد، ما الروح؟ فما زال متوكئا على العسيب فظننت أنه يوحى إليه، فلما نزل الوحي قال: ويسألونك عن الروح الآية.

وقال بعضهم لقريش لما أخرج أحمد والنسائي والترمذي، والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل. فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: ويسألونك إلخ.

وفي السير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا بعثت النضر بن الحارث. وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهم: سلوهم محمدا فإنهم أهل كتاب عندهم من العلم ما ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم فقالوا: سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها أو سكت [ ص: 153 ] فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي، فجاؤوا وسألوه فبين لهم صلى الله عليه وسلم قضيتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة، والآية على هذا وما قبله مكية وعلى خبر الصحيحين مدنية، وجمع بعضهم بين ذلك بأن الآية نزلت مرتين فتدبر، وأيا ما كان فوجه تعقيب ما تقدم بها إن فسر الروح بالقرآن ظاهر ملائم لقوله تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة ولما بعده من الامتنان عليه وعلى متبعيه بحفظه في الصدور والبقاء وكذلك إن فسر بجبرائيل عليه السلام، وأما على قول الجمهور فقد ورد معترضا دلالة على خسار الظالمين وضلالهم وأنهم مشتغلون عن تدبر الكتاب والانتفاع به إلى التعنت بسؤال ما اقتضت الحكمة سد طريق معرفته، ويقال نحو هذا على القول المروي عن بعض السلف قل الروح أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال الاعتناء من أمر ربي كلمة «من» تبعيضية، وقيل: بيانية، والأمر واحد الأمور بمعنى الشأن، والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي؛ إذ ما من شيء إلا وهو مضاف إليه عز وجل بهذا المعنى، فيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه؛ أي: هي من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا تكاد تدركها عيون عقول البشر.

وما أوتيتم من العلم إلا قليلا لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك، وهذا على ما قيل: ترك للبيان ونهي لهم عن السؤال.

أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت هذه الآية بمكة فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا: يا محمد، ألم يبلغنا عنك أنك تقول: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك؟ قال: «كلا قد عنيت». قالوا: فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله تعالى قليل، وقد آتاكم الله تعالى ما إن عملتم به انتفعتم». فأنزل الله تعالى: ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام إلى قوله سبحانه: إن الله سميع بصير وكأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن المراد في الآية - تبيانا لكل شيء - من الأمور الدينية، ولا شك أنها أقل قليل بالنسبة إلى معلومات الله تعالى التي لا نهاية لها، وبهذا يرد على القائل بالعموم الحقيقي.

وفي رواية النسائي وابن حبان والترمذي والحاكم وصححاها أن اليهود قالوا حين نزلت الآية: أوتينا علما كثيرا؛ أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فأنزل الله تعالى: قل لو كان البحر الآية.

ولا يخفى أن هذا أيضا لا يلزم منه التناقض؛ لأن الكثرة والقلة من الأمور الإضافية فالشيء يكون قليلا بالنسبة إلى ما فوقه وكثيرا بالنسبة إلى ما تحته فما في التوراة قليل بالنسبة إلى ما في علم الله تعالى شأنه كثير بالنسبة إلى أمر آخر.

وفي رواية أخرجها ابن مردويه عن عكرمة أنه صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك قال اليهود: نحن مختصون بهذا الخطاب فقال: بل نحن وأنتم فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وساعة تقول هذا، فنزل: ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام إلخ. ولا يلزم منه التناقض أيضا على نحو ما تقدم بأن يقال: الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وهو قليل بالنسبة إلى معلوماته تعالى كثير بالنسبة إلى غيرها، وإلى تعميم الخطاب بحيث يشمل الناس أجمعين ذهب ابن جريج كما أخرجه عنه ابن جرير، وابن المنذر لكن يعكر على القول بالعموم ظاهر [ ص: 154 ] قراءة ابن مسعود والأعمش: «وما أوتوا» فإنه يقتضي الاختصاص بالسائلين، والحديث الأخير الذي هو نص فيه قال العراقي: إنه غير صحيح، والحديث الأول الله تعالى أعلم بحاله، وقال غير واحد: معنى كون الروح من أمره تعالى أنه من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني فالمراد من الأمر واحد الأوامر أعني كن، والسؤال عن الحقيقة والجواب إجمالي، ومآله أن الروح من عالم الأرض مبدعة من غير مادة لا من عالم الخلق وهو من الأسلوب الحكيم كجواب موسى عليه السلام سؤال فرعون إياه ما رب العالمين إشارة إلى أن كنه حقيقته مما لا يحيط به دائرة إدراك البشر وإنما الذي يعلم هذا المقدار الإجمالي المندرج تحت ما استثني بقوله تعالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي: إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات ولذلك قيل: من فقد حسا فقد فقد علما، ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس لكونه غير محسوس أو محسوسا منع من إحساسه مانع كالغيبة مثلا وكذا لا يدرك شيئا من عرضياته ليرسمه بها فضلا عن أن ينتقل منها الفكر إلى الذاتيات ليقف على الحقيقة، وظاهر كلام بعضهم أن الوقوف على كنه الروح غير ممكن فلا فرق عنده بين الجوابين.

وفرق الخفاجي بأن بيان كنه الروح ممكن بخلاف كنه الذات الأقدس، وفي الكشف أن سبيل معرفة الروح إزالة الغشاء عن أبصار القلوب باجتلاء كحل الجواهر من كلام علام الغيوب؛ فهو عند المكتحلين أجلى جلي وعند المشتغلين أخفى خفي، ويشكل على هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة قال: لقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح، ولعل عبد الله هذا يزعم أنها يمتنع العلم بها وإلا فلم يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علم كل شيء يمكن العلم به كما يدل عليه ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث صحيح وسئل البخاري عنه فقال: حديث حسن صحيح عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قلت: لا أدري رب، فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري وتجلى لي كل شيء وعرفت» الحديث.

و «رأيت» يعلم في الخبر السابق في بعض الكتب مضبوطا بالبناء للمفعول والروح مضبوطا بالرفع والإشكال على ذلك أوهن إلا أنه خلاف الظاهر.

ويفهم من كلام بعض متأخري الصوفية أنه يمتنع الوقوف على حقيقة الروح بل ذكر هذا البعض أن حقيقة جميع الأشياء لا يوقف عليها وهو مبني على ما لا يخفى عليك، ورده أو قبوله مفوض إليك، ثم إن لي في هذا الوجه وقفة؛ فإن الظاهر أن إطلاق عالم الأمر على الكائن من غير تحصل من مادة وتولد من أصل وإطلاق عالم الخلق على خلافه محض اصطلاح لا يعرف للعرب ولا يعرفونه، وفي الاستدلال عليه بقوله تعالى: ألا له الخلق والأمر ما لا يخفى على منصف، هذا وذكر الإمام أن السؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة وليس في قوله تعالى: ويسألونك عن الروح ما يدل على وجه منها إلا أن الجواب المذكور لا يليق إلا بوجهين منها: الأول: كونه سؤالا عن الماهية: والثاني: كونه سؤالا عن القدم والحدوث، وحاصل الجواب على الأول أنها جوهر بسيط مجرد محدث بأمر الله تعالى وتكوينه وتأثيره إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم [ ص: 155 ] بحقيقته المخصوصة فإن أكثر حقائق الأشياء ماهياتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها، ويشير إليه: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ومبنى هذا أيضا الفرق بين عالم الأمر وعالم الخلق وقد سمعت ما فيه، وحاصل الجواب على الثاني أنه حادث حصل بفعل الله تعالى وتكوينه وإيجاده، وجعل قوله تعالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا احتجاجا على الحدوث بمعنى أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها ذلك فلا تزال في تغير من حال إلى حال وهو من أمارات الحدوث، وأنت تعلم أن حمل السؤال على ما ذكر وجعل الجواب إخبارا بالحدوث مع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم؛ فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمهم حينئذ، وقد أخبر عنه، وجعل ذلك احتجاجا على الحدوث من أعجب الحوادث كما لا يخفى على ذي روح. والله تعالى أعلم.

وهاهنا أبحاث لا بأس بإيرادها:

التالي السابق


الخدمات العلمية