صفحة جزء
قال موسى عليه السلام ردا لقوله المذكور: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء أي الآيات التسع أو بعضها، والإشارة إلى ذلك بما ذكر على حد قوله على إحدى الروايتين: والعيش بعد أولئك الأيام، وقد مر إلا رب السماوات والأرض أي: خالقهما ومدبرهما، وحاصل الرد أن علمك بأن هاتيك الآيات من الله تعالى إذ لا يقدر عليها سواه تعالى يقتضي أني لست بمسحور ولا ساحر، وأن كلامي غير مختل لكن حب الرياسة حملك على العناد في التعرض لعنوان الربوبية إيماء إلى أن إنزالها من آثار ذلك، وفي البحر: ما أحسن إسناد إنزالها إلى رب السموات والأرض إذ هو عليه السلام لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له: وما رب العالمين؟ قال: رب السموات والأرض تنبيها على نقصه وأنه لا تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى مستحيل فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله تعالى ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذه أو هي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه أو العلم بعلمه ليكون إفادة لازم الخبر كقولك لمن حفظ التوراة: حفظت التوراة.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والكسائي: «لقد علمت» بضم التاء فيكون موسى عليه السلام قد أخبر عن نفسه أنه ليس بمسحور كما زعم عدو الله تعالى وعدوه بل هو يعلم أن ما أنزل تلك الآيات إلا خالق السموات والأرض ومدبرهما، وروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: والله ما علم عدو الله تعالى ولكن موسى عليه السلام هو الذي علم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول وكيف يقول ذلك باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه، ووجه نسبة العلم إليه ظاهر.

وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور أن سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم أخرجوا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقرأ بالضم ويقول ذلك. ولم يتعقبه بشيء، ولعل هذا المجهول الذي ذكره أبو حيان في أسانيدهم، والله تعالى أعلم.

وجملة: ما أنزل إلخ معلق عنها سادة مسد علمت وقوله تعالى: بصائر حال من هؤلاء والعامل فيه أنزل المذكور عند الحوفي وأبي البقاء وابن عطية وما قبل إلا يعمل فيما بعدها إذا كان مستثنى منه أو تابعا له، وقد نص الأخفش والكسائي على جواز: ما ضرب هندا إلا زيد ضاحكة، ومذهب الجمهور عدم الجواز؛ فإن ورد ما ظاهره ذلك أول عندهم على إضمار فعل يدل عليه ما قبل، والتقدير هنا: أنزلها بصائر؛ أي: بينات مكشوفات تبصرك صدقي على أنه جمع بصيرة بمعنى مبصرة أي بينة وتطلق البصائر على الحجج بجعلها كأنها بصائر العقول، أي: ما أنزلها إلا حججا وأدلة على صدقي وتكون بمعنى العبرة كما ذكره الراغب، هذا ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد من الآيات التسع ما اقتضاه خبر صفوان السابق يجوز أن تكون ( هؤلاء ) إشارة [ ص: 186 ] إلى ما أظهره عليه السلام من المعجزات ويعتبر إظهار ذلك فيما يفصح عنه الفاء الفصيحة وإن أبيت إلا جعلها إشارة إلى الآيات المذكورة بذلك المعنى لتحقق جميعها من أول الأمر وثبوتها وقت المحاورة وشدة ملاءمة الإنزال لها احتجت إلى ارتكاب نوع تكلف فيما لا يخفى عليك.

وإني لأظنك يا فرعون مثبورا أي: هالكا كما روي عن الحسن ومجاهد على أنه من ثبر اللازم بمعنى هلك، ومفعول فيه للنسب بناء على أنه يأتي له من اللازم والمتعدي، وفسره بعضهم ب «مهلكا» وهو ظاهر، وعن الفراء أنه قال: أي: مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم: ما ثبرك عن هذا؛ أي: ما منعك وإليه يرجع ما أخرجه الطستي عن ابن عباس من تفسيره ب «ملعونا» محبوسا عن الخير.

وأخرج الشيرازي في الألقاب وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه تفسيره بناقص العقل، وفي معناه تفسير الضحاك بمسحور قال: رد موسى عليه السلام بمثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن مثبورا في الآية فقال: مخالفا ثم قال: الأنبياء عليهم السلام من أن يلعنوا أو يسبوا، وأنت تعلم أن هذا معنى مجازي له وكذا ناقص العقل ولا داعي إلى ارتكابه، وما ذكره الإمام مالك فيه ما فيه، نعم قيل: إن تفسيره ب «هالكا» ونحوه مما فيه خشونة ينافي قوله تعالى خطابا لموسى وهارون عليهما السلام: فقولا له قولا لينا وأشار أبو حيان إلى جوابه بأن موسى عليه السلام كان أولا يتوقع من فرعون المكروه كما قال: إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى فأمر أن يقول له قولا لينا، فلما قال سبحانه له: لا تخف وثق بحماية الله تعالى فصال عليه صولة المحمي وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك، وفيه كلام ستطلع عليه إن شاء الله تعالى في محله، وبالجملة التفسير الأول أظهر التفاسير ولا ضير فيه لا سيما مع تعبير موسى عليه السلام بالظن ثم إنه عليه السلام قد قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون إفك مبين وظن موسى عليه السلام يحوم حول اليقين.

وقرأ أبي وابن كعب: «وإن إخالك يا فرعون لمثبورا» على «إن» المخففة واللام الفارقة، وإخال بمعنى أظن بكسر الهمزة في الفصيح وقد تفتح في لغة كما في القاموس.

التالي السابق


الخدمات العلمية