صفحة جزء
فلما بلغا الفاء [ ص: 314 ] فصيحة؛ أي: فذهبا يمشيان إلى مجمع البحرين فلما بلغا مجمع بينهما أي البحرين، والأصل في «بين» النصب على الظرفية.

وأخرج عن ذلك بجره بالإضافة اتساعا والمراد مجمعهما، وقيل: مجمعا في وسطهما فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين، وذكر أن هذا يناسب تفسير المجمع بطنجة أو إفريقية إذ يراد بالمجمع متشعب بحر فارس والروم من المحيط وهو هناك، وقيل: «بين» اسم بمعنى الوصل، وتعقب بأن فيه ركاكة؛ إذ لا حسن في قولك: مجمع وصلهما، وقيل: إن فيه مزيد تأكيد كقولهم: جد جده وجوز أن يكون بمعنى الافتراق؛ أي: موضع اجتماع افتراق البحرين أي البحرين المفترقين، والظاهر أن ضمير التثنية على الاحتمالين للبحرين.

وقال الخفاجي: يحتمل على احتمال أن يكون بمعنى الافتراق عوده لموسى والخضر عليهما السلام؛ أي: وصلا إلى موضع وعد اجتماع شملهما فيه، وكذا إذا كان بمعنى الوصل انتهى، وفيه ما لا يخفى، و «مجمع» على سائر الاحتمالات اسم مكان، واحتمال المصدرية هنا مثله فيما تقدم نسيا حوتهما الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب.

فقد صح أن الله تعالى حين قال لموسى عليه السلام: إن لي بمجمع البحرين من هو أعلم قال موسى: يا رب، فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا وجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر.

والظاهر نسبة النسيان إليهما جميعا وإليه ذهب الجمهور، والكلام على تقدير مضاف؛ أي: نسيا حال حوتهما إلا أن الحال الذي نسيه كل منهما مختلف، فالحال الذي نسيه موسى عليه السلام كونه باقيا في المكتل أو مفقودا والحال الذي نسيه يوشع عليه السلام ما رأى من حياته ووقوعه في البحر، وهذا قول بأن يوشع شاهد حياته وفيه خبر صحيح.

ففي حديث رواه الشيخان وغيرهما أن الله تعالى قال لموسى: خذ نونا ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ ذلك فجعله في مكتل فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال: ما كلفت كثيرا. فبينما هما في ظل صخرة إذا اضطرب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره.

وفي حديث رواه مسلم وغيره أن الله تعالى قال له: آية ذلك أن تزود حوتا مالحا فهو حيث تفقده، ففعل حتى إذا انتهيا إلى الصخرة انطلق موسى يطلب ووضع فتاه الحوت على الصخرة فاضطرب ودخل البحر فقال فتاه: إذا جاء نبي الله تعالى حدثته فأنساه الشيطان.

وزعم بعض أن الناسي هو الفتى لا غير، نسي أن يخبر موسى عليه السلام بأمر الحوت، ووجه نسبة النسيان إليهما بأن الشيء قد ينسب إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحدا منهم، وما ذكر هنا نظير نسي القوم زادهم إذا نسيه متعهد أمرهم، وقيل: الكلام على حذف مضاف؛ أي: نسي أحدهما والمراد به الفتى وهو كما ترى، وسبب حياة هذا الحوت على ما في بعض الروايات عن ابن عباس أنه كان عند الصخرة ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقاربه ميت إلا حيي، فأصاب شيء منه الحوت فحيي.

وروي أن يوشع عليه السلام توضأ من ذلك الماء فانتضح شيء منه على الحوت فعاش.

وقيل: إنه لم يصبه سوى روح الماء وبرده فعاش بإذن الله تعالى، وذكر هذا الماء وأنه ما أصاب منه شيء إلا حيي [ ص: 315 ] وأن الحوت أصاب منه جاء في صحيح البخاري فيما يتعلق بسورة الكهف أيضا، لكن ليس فيه أنه من شرب منه خلد كما في بعض الروايات السابقة. ويشكل على هذا البعض أنه روي أن يوشع شرب منه أيضا مع أنه لم يخلد، اللهم إلا أن يقال: إن هذا لا يصح. والله تعالى أعلم.

ثم إن هذا الحوت كان على ما سمعت فيما مر مالحا وفي رواية مشويا، وفي بعض أنه كان في جملة ما تزوداه وكانا يصيبان منه عند العشاء والغداء فأحياه الله تعالى وقد أكلا نصفه فاتخذ سبيله في البحر سربا مسلكا كالسرب وهو النفق.

فقد صح من حديث الشيخين والترمذي والنسائي وغيرهم أن الله تعالى أمسك عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، والمراد به البناء المقوس كالقنطرة.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن الحبر جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة، وهذا وكذا ما سبق من الأمور الخارقة للعادة التي يظهرها سبحانه على من شاء من أنبيائه وأوليائه، ونقل الدميري بقاء أثر الخارق الأول قال: قال أبو حامد الأندلسي: رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي تزوده موسى وفتاه عليهما السلام وأكلا منه وهي سمكة طولها أكثر من ذراع، وعرضها شبر، وأحد جنبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها، ولها عين واحدة ورأسها نصف رأس، من رآها من هذا الجانب استقذرها وحسب أنها مأكولة ميتة، ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة انتهى.

وقال أبو شجاع في كتاب الطبري: أتيت به فرأيته فإذا هو شق حوت وليس له إلا عين واحدة، وقال ابن عطية: وأنا رأيته أيضا وعلى شقه قشرة رقيقة ليس تحتها شوكة، وفيه مخالفة لما في كلام أبي حامد، وأنا سألت كثيرا من راكبي البحار ومتتبعي عجائب الآثار فلم يذكروا أنهم رأوا ذلك ولا أهدي إليهم في مملكة من الممالك، فلعل أمره إن صح كل من الإثبات والنفي صار اليوم كالعنقاء كانت فعدمت. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

والفاء على ما يقتضيه كلامهم فصيحة؛ أي: فحيي وسقط في البحر فاتخذ، وقدر بعضهم المعطوف عليه الذي تفصح عنه الفاء بالواو على خلاف المألوف ليدفع به الاعتراض على كون الحال الذي نسيه يوشع ما رأى من حياته ووقوعه في البحر بأن الفاء تؤذن بأن نسيانه عليه السلام كان قبل حياته ووقوعه في البحر واتخاذه سربا فلا يصح اعتبار ذلك في الحال المنسي، وأجيب بأن المعتبر في الحال هو الحياة والوقوع في البحر أنفسهما من غير اعتبار أمر آخر، والواقع بعدهما من حيث ترتب عليهما الاتخاذ المذكور فهما من حيث أنفسهما متقدمان على النسيان ومن حيث ترتب الاتخاذ متأخران وهما من هذه الحيثية معطوفان على نسيا بالفاء التعقيبية، ولا يخفى أنه سيأتي في الجواب إن شاء الله تعالى ما يأبى هذا الجواب إلا أن يلتزم فيه خلاف المشهور بين الأصحاب فتدبر، وانتصاب سربا على أنه مفعول ثان لاتخذ و في البحر حال منه ولو تأخر كان صفة أو من السبيل، ويجوز أن يتعلق ب «اتخذ»، و «في» في جميع ذلك ظرفية.

وربما يتوهم من كلام ابن زيد حيث قال: إنما اتخذ سبيله في البر حتى وصل إلى البحر فعام على العادة أنها تعليلية مثلها في أن امرأة دخلت النار في هرة فكأنه قيل: فاتخذ سبيله في البر سربا لأجل وصوله إلى البحر، ووافقه في كون اتخاذ السرب في البر قوم، وزعموا أنه صادف في طريقه في البر حجرا فنقبه، ولا يخفى [ ص: 316 ] أن القول بذلك خلاف ما ورد في الصحيح مما سمعت، والآية لا تكاد تساعده، وجوز أن يكون مفعولا ( اتخذ سبيله ) و في البحر و سربا حال من السبيل وليس بذاك، وقيل: حال من فاعل اتخذ وهو بمعنى التصرف والجولان من قولهم: فحل سارب؛ أي: مهمل يرعى حيث شاء، ومنه قوله تعالى: وسارب بالنهار وهو في تأويل الوصف؛ أي اتخذ ذلك في البحر متصرفا، ولا يخفى أنه نظير سابقه.

التالي السابق


الخدمات العلمية