صفحة جزء
يا أبت أي : يا أبي فإن التاء عوض من ياء الإضافة ولذلك لا يجمع بينهما إلا شذوذا كقوله : يا أبتي أرقني القذان ، والجمع في يا أبتا قيل بين عوضين وهو جائز كجمع صاحب الجبيرة بين المسح والتيمم وهما عوضان عن الغسل وقيل المجموع فيه عوض ، وقيل : الألف للإشباع وأنت تعلم حال العلل النحوية .

وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر ( يا أبت ) بفتح التاء ، وزعم هارون أن ذلك لحن والحق خلافه وفي مصحف عبد الله ( وأبت ) بواو بدل ياء والنداء بها في غير الندبة قليل ، وناداه عليه السلام بذلك استعطافا له .

وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أنس مرفوعا: حق الوالد على ولده أن لا يسميه إلا بما سمى إبراهيم عليه السلام به أباه يا أبت ولا يسميه باسمه ، وهذا ظاهر في أنه كان أباه حقيقة ، وصحح جمع أنه كان عمه وإطلاق الأب عليه مجاز لم تعبد ما لا يسمع ثناءك عليه عند عبادتك له وجؤارك إليه ولا يبصر خضوعك وخشوعك بين يديه أو لا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا ، وما موصولة وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ولا يغني أي لا يقدر على أن يغني عنك شيئا [ ص: 97 ] من الأشياء أو شيئا من الإغناء فهو نصب على المفعولية أو المصدرية . ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق ليس له منهاج لئلا يركب متن المكابرة والعناد ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب . ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على النفع والضر لكن كان ممكنا لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر .

ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي مصدرا لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال : يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه، ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك، بل أبرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال فاتبعني أهدك صراطا سويا أي مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منحيا عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب . وقوله (جاءني) ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبئ عليه السلام ، والذي جاءه قيل العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله . وقيل : العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها . وقيل : العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال :

التالي السابق


الخدمات العلمية