صفحة جزء
[ ص: 147 ] سورة طه

وتسمى أيضا سورة الكليم
كما ذكر السخاوي في جمال القراء وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية . واستثنى بعضهم منها قوله تعالى : واصبر على ما يقولون الآية .

وقال الجلال السيوطي : ينبغي أن يستثنى آية أخرى ، فقد أخرج البزار وأبو يعلى عن أبي رافع قال : أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال : لا إلا برهن فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرته فقال : أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم الآية انتهى .

ولعل ما روي عن الحبرين على القول باستثناء ما ذكر باعتبار الأكثر منها . وآياتها كما قال الداني مائة وأربعون آية شامي وخمس وثلاثون كوفي وأربع حجازي وآيتان بصري . ووجه الترتيب على ما ذكره الجلال أنه سبحانه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء عليهم السلام وبعضها مبسوط كقصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وبعضها بين البسط والإيجاز كقصة إبراهيم عليه السلام وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام، وأشار إلى بقية النبيين عليهم السلام إجمالا ذكر جل وعلا في هذه السورة شرح قصة موسى عليه السلام التي أجملها تعالى هناك فاستوعبها سبحانه غاية الاستيعاب وبسطها تبارك وتعالى أبلغ بسط ثم أشار عز شأنه إلى تفصيل قصة آدم عليه السلام الذي وقع في مريم مجرد ذكر اسمه ثم أورد جل جلاله في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر قصته في مريم كنوح ولوط وداود وسليمان وأيوب واليسع وذي الكفل وذي النون عليهم السلام، وأشير فيها إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى وهارون وإسماعيل . وذكرت تلو مريم لتكون السورتان كالمتقابلتين وبسطت فيها قصة إبراهيم عليه السلام البسط التام فيما يتعلق به مع قومه ولم يذكر حاله مع أبيه إلا إشارة كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطا ، وينضم إلى ما ذكر اشتراك هذه السورة وسورة مريم في الافتتاح بالحروف المقطعة ، وقد روي عن ابن عباس وجابر بن زيد رضي الله تعالى عنهم أن طه نزلت بعد سورة مريم . ووجه ربط أول هذه بآخر تلك أنه سبحانه ذكر هناك تيسير القرآن بلسان الرسول عليه الصلاة والسلام معللا بتبشير المتقين وإنذار المعاندين وذكر تعالى هنا ما فيه نوع من تأكيد ذلك . وجاءت آثار تدل على مزيد فضلها .

أخرج الدارمي وابن خزيمة في التوحيد والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ( إن الله تبارك وتعالى قرأ ( طه ) و ( يس ) قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت : طوبى لأمة ينزل عليها هذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسنة تتكلم بهذا ) وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا نحوه .

وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كل قرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرؤون منه شيئا إلا سورة ( طه ) و ( يس ) فإنهم يقرؤون بهما في الجنة ، إلى غير ذلك من الآثار .

" بسم الله الرحمن الرحيم طه فخمها على الأصل ابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب وهو إحدى [ ص: 148 ] الروايتين عن قالون وورش، والرواية الأخرى أنهما فخما الطاء وأمالا الهاء وهو المروي عن أبي عمرو وأمال الحرفين حمزة والكسائي وأبو بكر ولعل إمالة الطاء مع أنها من حروف الاستعلاء، والاستعلاء يمنع الإمالة لأنها تسفل لقصد التجانس وهي من الفواتح التي تصدر بها السور الكريمة على إحدى الروايتين عن مجاهد بل قيل : هي كذلك عند جمهور المتقنين ، وقال السدي : المعنى يا فلان ، وعن ابن عباس في رواية جماعة عنه والحسن وابن جبير وعطاء وعكرمة وهي الرواية الأخرى عن مجاهد أن المعنى يا رجل ، واختلفوا فقيل : هو كذلك بالنبطية ، وقيل : بالحبشية ، وقيل : بالعبرانية ، وقيل بالسريانية .

وقيل : بلغة عكل ، وقيل : بلغة عك . وروي ذلك عن الكلبي قال : لو قلت في عك : يا رجل لم يجب حتى تقول : - طاها- وأنشد الطبري في ذلك قول متمم بن نويرة :


دعوت بطاها في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا



وقول الآخر :


إن السفاهة طاها من خلائقكم     لا بارك الله في القوم الملاعين



وقال ابن الأنباري : إن لغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا لأن الله تعالى لم يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان غير لسان قريش ، ولا يخفى أن مسألة وقوع شيء بغير لغة قريش من لغات العرب في القرآن خلافية ، وقد بسط الكلام عليها في الإتقان ، والحق الوقوع وتخرص الزمخشري على عك فقال : لعل عكا تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا : في ياطا واختصروا هذا واقتصروا على ها . وتعقبه أبو حيان بأنه لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه ولم يقل ذلك نحوي . وذكر في البيت الأخير أنه إن صح فطه فيه قسم بالحروف المقطعة أو اسم السورة على أنه شعر إسلامي كقوله ( حم لا ينصرون ) .

وتعقب بأنه احتمال بعيد وهو كذلك في المثال وقد رواه النسائي مرفوعا . ولفظ الخبر: إذا لقيكم العدو فليكن شعاركم حم لا ينصرون وليس في سياقه دليل على ذلك ، ويحتمل أن يكون لا ينصرون مستأنفا والشعار التلفظ بحم فقط كأنه قيل : ماذا يكون إذا كان شعارنا ذلك فقيل : لا ينصرون ، وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس أنه قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه ، وعن أبي جعفر أنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم .

وقرأت فرقة منهم أبو حنيفة والحسن وعكرمة وورش ( طه ) بفتح الطاء وسكون الهاء كبل فقيل : معناه يا رجل أيضا ، وقيل : أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه فإنه عليه الصلاة والسلام كما روي عن الربيع بن أنس كان إذا صلى قام على رجل واحدة فأنزل الله تعالى طه إلخ ، وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا قام الليل كله حتى تورمت قدماه، فجعل يرفع رجلا ويضع رجلا فهبط عليه جبريل عليه السلام فقال طه الآية .

والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء كما قالوا في إياك وأرقت ونك هياك وهرقت ولهنك أو قلبت الهمزة في فعله الماضي والمضارع ألفا كما في قول الفرزدق :


راحت بمسلمة البغال عشية     فارعي فزارة لا هناك المرتع



وكما قالوا في سأل سال وحذفت في الأمر لكونه معتل الآخر وضم إليه هاء السكت وهو في مثل ذلك لازم خطا ووقفا ، ووقد يجري الوصل مجرى الوقف فتثبت لفظا فيه ، وجوز بعضهم أن يكون أصل طه [ ص: 149 ] في القراءة المشهورة طاها على أن طا أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه وها ضمير مؤنث في موضع المفعول به عائد على الأرض وإن لم يسبق لها ذكر ، واعترض بأنه لو كان كذلك لم تسقط منه الألفان ورسم المصحف وإن كان لا ينقاس لكن الأصل فيه موافقته للقياس فلا يعدل عنه لغير داع وليس هذه الألف في اسم ولا وسطا كما في الحرث ونحوه لتحذف لا سيما وفي حذفها لبس فلا يجوز كما فصل في باب الخط من التسهيل .

واعترض بهذا أيضا على تفسيره بيا رجل ونحوه ، وقيل : توجيه ذلك على هذا الأصل ويعلم منه توجيه آخر لقراءة أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ومن معه أن يقال : اكتفى من طأ بطاء متحركة ومن ها الضمير بهاء ثم عبر عنهما باسميهما فها ليست ضميرا بل هي كالقاف في قوله :


قلت لها قفي فقالت قاف



واعترض أيضا بأنه كان ينبغي على هذا أن لا تكتب صورة المسمى بل صورة الاسم . وأجيب بأن كتابة الأسماء بصور المسميات أمر مخصوص بحروف التهجي . وتعقب بأن ما ذكر لا يقطع مادة الإيراد إذ لو كان كذلك لانفصل الحرفان في الخط بأن يكتبان هكذا ط هـ . فإن قيل : إن خط المصحف لا ينقاس قيل عليه ما قيل ، والحق أن دعوى أن خط المصحف لا ينقاس قوية جدا وما قيل عليها لا يعول عليه ، وما صح عن السلف يقبل ولا يقدح فيه عدم موافقة القياس ، وإن كانت الموافقة هي الأصل .

وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه ، والربيع بن أنس أنهما فسرا طه بطأ الأرض بقدميك يا محمد ولم أقف على طعن في الرواية والله أعلم .

واختلف في إعرابه حسب الاختلاف في المراد منه فهو على ما نقل عن الجمهور من أن المراد منه طائفة من حروف المعجم مسرودة على نمط التعديد افتتحت بها السورة لا محل له من الإعراب ، وكذا ما بعده من قوله تعالى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى فإنه استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، فإن الشقاء شائع في ذلك المعنى ، ومنه المثل أشقى من رائض مهر ، وقول الشاعر :


ذو العقل يشقى في النعيم بعقله     وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم



أي ما أنزلناه عليك لتتعب بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العتاة ومحاورة الطغاة وفرط التأسف على كفرهم به والتحسر على أن يؤمنوا به كقوله تعالى شأنه فلعلك باخع نفسك على آثارهم الآية بل لتبلغ وتذكر وقد فعلت فلا عليك إن لم يؤمنوا بعد ذلك أو لصرفه عليه الصلاة والسلام عما كان عليه من المبالغة في المجاهدة في العبادة كما سمعت فيما أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أي ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضات الشاقة والشدائد الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة ، وقال مقاتل : إن أبا جهل والنضر بن الحارث والمطعم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأوا كثرة عبادته : إنك لتشقى بترك ديننا وإن القرآن أنزل عليك لتشقى به فرد الله تعالى عليهم ذلك بأنا ما أنزلناه عليك لما قالوا . والشقاء في كلامهم يحتمل أن يكون بمعناه الحقيقي وهو ضد السعادة، والتعبير به في كلامه تعالى من باب المشاكلة وإن أريد منه القرآن بتأويله بالمتحدى به من جنس هذه الحروف .

فجوز فيه أن يكون محله الرفع على الابتداء والجملة بعده خبره ، وقد أقيم فيها الظاهر أعني القرآن مقام [ ص: 150 ] الضمير الرابط لنكتة وهو أن القرآن رحمة يرتاح لها فكيف ينزل للشقاء ، وقيل : الخبر محذوف ، وقيل : هو خبر لمبتدأ محذوف . والجملة على القولين مستأنفة . وجوز أن يكون محله النصب على إضمار اتل . وقيل : على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب بفعله مضمرا نحو قوله : إن على الله أن تبايعا، وجوز أن يكون محله الجر بتقدير حرف القسم نظير قوله من وجه أشارت كليب بالأكف الأصابع والجملة بعده على تقدير إرادة القسم جواب القسم .

وجوزت هذه الاحتمالات على تقدير أن يكون المراد منه السورة . وأمر ربط الجملة على تقدير ابتدائيته وخبريتها إن كان القرآن خاصا بهذه السورة باعتبار كون تعريفه عهديا حضوريا ظاهر . وإن كان عاما فالربط به لشموله للمبتدأ كما قيل في نحو: زيد نعم الرجل .

ومنع بعضهم إرادة السورة مطلقا لاتفاق المصاحف على ذكر سورة في العنوان مضافة إلى طه وحينئذ يكون التركيب كإنسان زيد وقد حكموا بقبحه، وفيه بحث لا يكاد يخفى حتى على بهيمة الأنعام ، وبعضهم إرادة ذلك على تقدير الأخبار بالجملة بعد قال : لأن نفي كون إنزال القرآن للشقاء يستدعي وقوع الشقاء مترتبا على إنزاله قطعا إما بحسب الحقيقة كما إذا أريد به التعب أو بحسب زعم الكفرة كما لو أريد به ضد السعادة ، ولا ريب في أن ذلك إنما يتصور في إنزال ما أنزل من قبل وأما إنزال السورة الكريمة فليس مما يمكن ترتب الشقاء السابق عليه حتى يتصدى لنفيه عنه أما باعتبار اتحاد القرآن بالسورة فظاهر ، وأما باعتبار الاندراج فلأن مآله أن يقال : هذه السورة ما أنزلنا القرآن المشتمل عليها لتشقى ، ولا يخفى أن جعلها مخبرا عنها مع أنه لا دخل لإنزالها في الشقاء السابق أصلا مما لا يليق بشأن التنزيل ا هـ ولا يخلو عن حسن ، وعلى ما روي عن أبي جعفر من أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم يكون منادى وحكمه مشهور ، والجملة جواب النداء ، ومحله على ما أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن الحبر من أنه قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه تباركت أسماؤه النصب أو الجر على ما سمعت آنفا .

وعلى ما روي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، والربيع يكون جملة فعلية وقد مر لك تفصيل ذلك ، والجملة بعده مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا كأنه قيل لم أطؤها؟ فقيل : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وقرأ طلحة ( ما نزل عليك القرآن ) بتشديد الفعل وبنائه للمفعول وإسناده إلى القرآن.

التالي السابق


الخدمات العلمية