صفحة جزء
قال موسى عليه السلام علمها عند ربي أي : إن ذلك من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وإنما أنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بالرسالة والعلم بأحوال القرون وما جرى عليهم على التفصيل مما لا ملابسة فيه بمنصب الرسالة كما زعمت . وقيل : إنما سأله عن ذلك ليختبر أنه نبي أو هو من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة ، وقال النقاش : إن اللعين لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب الآية سأل عن ذلك فرد عليه السلام علمه إلى الله تعالى لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة فإنه كان نزولها بعد هلاك فرعون .

وقال بعضهم : إن السؤال مبني على قوله عليه السلام والسلام على من اتبع الهدى إلخ أي فما حال القرون السالفة بعد موتهم من السعادة والشقاوة، والمراد بيان ذلك تفصيلا كأنه قيل : إذا كان الأمر كما ذكرت ففصل لنا حال من مضى من السعادة والشقاوة ولذا رد عليه السلام العلم إلى الله عز وجل فاندفع ما قيل : إنه لو كان المسؤول عنه ما ذكر من السعادة والشقاوة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن [ ص: 204 ] تولى فقد عذب حسبما نطق به قوله تعالى والسلام إلخ ، وقيل : إنه متعلق بقوله سبحانه إنا قد أوحي إلينا إلخ أي إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى كذبوا ثم ما عذبوا ، وقيل : هو متعلق به والسؤال عن البعث، والضمير في علمها للقيامة وكلا القولين كما ترى وعود الضمير على القيامة أدهى من أمر التعلق (وأمر) .

وقيل : إنه متعلق بجواب موسى عليه السلام اعتراضا على ما تضمنه من علمه تعالى بتفاصيل الأشياء وجزئياتها المستتبع إحاطة قدرته جل وعلا بالأشياء كلها كأنه قيل : إذا كان علم الله تعالى كما أشرت فما تقول في القرون الخالية مع كثرتهم وتمادي مدتهم وتباعد أطرافهم، كيف إحاطة علمه تعالى بهم وبأجزائهم وأحوالهم فأجاب بأن علمه تعالى محيط بذلك كله إلى آخر ما قص الله تعالى ، وتخصيص القرون الأولى على هذا بالذكر مع أولوية التعميم قيل لعلم فرعون ببعضها وبذلك يتمكن من معرفة صدق موسى عليه السلام : إن بين أحوالها ، وقيل : إنه لإلزام موسى عليه السلام وتبكيته عند قومه في أسرع وقت لزعمه أنه لو عمم ربما اشتغل موسى عليه السلام بتفصيل علمه تعالى بالموجودات المحسوسة الظاهرة فتطول المدة ولا يتمشى ما أراده ، وأيا ما كان يسقط ما قيل : إنه يأبى هذا الوجه تخصيص القرون الأولى من بين الكائنات، فإنه لو أخذها بجملتها كان أظهر وأقوى في تمشي ما أراد ، نعم بعد هذا الوجه مما لا ينبغي أن ينكر ، وقيل : إنه اعتراض عليه بوجه آخر كأنه قيل : إذا كان ما ذكرت من دليل إثبات المبدأ في هذه الغاية من الظهور فما بال القرون الأولى نسوه سبحانه ولم يؤمنوا به تعالى فلو كانت الدلالة واضحة وجب عليهم أن لا يكونوا غافلين عنها ومآله على ما قال الإمام معارضة الحجة بالتقليد ، وقريب منه ما يقال إنه متعلق بقوله ثم هدى على التفسير الأول كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى لم يستدلوا بذلك فلم يؤمنوا ، وحاصل الجواب على القولين أن ذلك من سر القدر وعلمه عند ربي جل شأنه في كتاب الظاهر أنه خبر ثان لـ " علمها " والخبر الأول عند ربي .

وجوز أن يكونا خبرا واحدا مثل هذا حلو حامض وأن يكون الخبر عند ربي ، و في كتاب في موضع الحال من الضمير المستتر في الظرف أو هو معمول له . وأن يكون الخبر في كتاب و (عند ربي) في موضع الحال من الضمير المستتر فيه والعامل الظرف وهو يعمل متأخرا على رأي الأخفش ، وقيل : يكون حالا من المضاف إليه في علمها ، وقيل : يكون ظرفا للظرف الثاني ، وقيل : هو ظرف للعلم ذكر جميع ذلك أبو البقاء ثم قال : ولا يجوز أن يكون في كتاب متعلقا بعلمها و عند ربي الخبر لأن المصدر لا يعمل فيما بعد خبره .

وأنت تعلم أن أول الأوجه هو الأوجه وكأنه عنى عليه السلام بالكتاب اللوح المحفوظ أي علمها مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله وهذا من باب المجاز، إذ المثبت حقيقة إنما هو النقوش الدالة على الألفاظ المتضمنة شرح أحوالهم المعلومة له تعالى ، وجوز أن يكون المراد بالكتاب الدفتر كما هو المعروف في اللغة، ويكون ذلك تمثيلا لتمكنه وتقرره في علمه عز وجل بما استحفظه العالم وقيده بكتبته في جريدة ولعله أولى ، ويلوح إليه قوله تعالى لا يضل ربي ولا ينسى فإن عدم الضلال والنسيان أوفق بإتقان العلم ، والظاهر أن فيه على الوجهين دفع توهم الاحتياج لأن الإثبات في الكتاب إنما يفعله من يفعله لخوف النسيان والله تعالى منزه عن ذلك ، والإثبات في اللوح المحفوظ لحكم ومصالح يعلم بعضها العالمون ، وقيل : إن هذه الجملة على الأول تكميل لدفع ما يتوهم من أن الإثبات في اللوح للاحتياج لاحتمال خطأ أو نسيان تعالى الله سبحانه عنه ، وعلى [ ص: 205 ] الثاني تذييل لتأكيد الجملة السابقة ، والمعنى لا يخطئ ربي ابتداء بأن لا يدخل شيء من الأشياء في واسع علمه فلا يكون علمه سبحانه محيطا بالأشياء ولا يذهب عليه شيء بقاء بأن يخرج عن دائرة علمه جل شأنه بعد أن دخل بل هو عز وجل محيط بكل شيء علما أزلا وأبدا، وتفسير الجملتين بما ذكر مما ذهب إليه القفال ووافقه بعض المحققين ولا يخفى حسنه .

وأخرج ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنهما بمعنى واحد وليس بذاك ، والفعلان قيل : منزلان منزلة اللازم ، وقيل : هما باقيان على تعديهما والمفعول محذوف أي لا يضل شيئا من الأشياء ولا ينساه ، وقيل : شيئا من أحوال القرون الأولى ، وعن الحسن لا يضل وقت البعث ولا ينساه وكأنه جعل السؤال عن البعث وخصص لأجله المفعول وقد علمت حاله . وعن ابن عباس أن المعنى: لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يحازيه وكأنه رضي الله تعالى عنه جعل السؤال عن حالهم من حيث السعادة والشقاوة، والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال فتدبر ولا تغفل .

وزعم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة لكتاب والعائد إليه محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه ، وقيل : العائد ضمير مستتر في الفعل (وربي) نصب على المفعول أي لا يضل الكتاب ربي أي عنه . وفي ينسى ضمير عائد إليه أيضا أي ولا ينسى الكتاب شيئا أي لا يدعه على حد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .

والعجب كل العجب من العدول عن الظاهر إلى مثل هذه الأقوال ، وإظهار (ربي) في موقع الإضمار للتلذذ بذكره تعالى ولزيادة التقرير والإشعار بعلية الحكم فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان حتما .

وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفي ( لا يضل ) بضم الياء من أضل وأضللت الشيء وضللته قيل بمعنى . وفي الصحاح عن ابن السكيت يقال : أضللت بعيري إذا ذهب منك وضللت المسجد والزاد إذا لم تعرف موضعهما وكذلك كل شيء مقيم لا يهتدى إليه ، وحكي نحوه عن الفراء وابن عيسى ، وذكر أبو البقاء في توجيه هذه القراءة وجهين جعل (ربي) منصوبا على المفعولية ، والمعنى لا يضل أحد ربي عن علمه، وجعله فاعلا والمعنى لا يجد ربي الكتاب ضالا أي ضائعا ، وقرأ السلمي ( لا يضل ربي ولا ينسى ) ببناء الفعلين لما لم يسم فاعله .

التالي السابق


الخدمات العلمية