صفحة جزء
وما أرسلناك بما ذكر وبأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك مما هو مناط لسعادة الدارين إلا رحمة للعالمين استثناء من أعم العلل أي وما أرسلناك بما ذكر لعلة من العلل إلا لترحم العالمين بإرسالك . أو من أعم الأحوال أي وما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك رحمة أو ذا رحمة أو راحما لهم ببيان ما أرسلت به ، والظاهر أن المراد بالعالمين ما يشمل الكفار ، ووجه ذلك عليه أنه عليه الصلاة والسلام أرسل بما هو سبب لسعادة الدارين ، ومصلحة النشأتين إلا أن الكافر فوت على نفسه الانتفاع بذلك وأعرض لفساد استعداده عما هنالك ، فلا يضر ذلك في كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل رحمة بالنسبة إليه أيضا كما لا يضر في كون العين العذبة مثلا نافعة عدم انتفاع الكسلان بها لكسله وهذا ظاهر خلافا لمن ناقش فيه ، وهل يراد بالعالمين ما يشمل الملائكة عليهم السلام أيضا فيه خلاف مبني [ ص: 105 ] على الخلاف في عموم بعثته صلى الله عليه وسلم لهم ، فإذا قلنا بالعموم كما رجحه من الشافعية البارزي وتقي الدين السبكي والجلال المحلي في خصائصه ، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن حامد وابن مفلح في كتاب الفروع ، ومن المالكية عبد الحق قلنا بشمول العالمين لهم هنا . وكونه صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة بالنسبة إليهم لأنه جاء عليه الصلاة والسلام أيضا بما فيه تكليفهم من الأوامر والنواهي وإن لم نعلم ما هنا ، ولا شك أن في امتثال المكلف ما كلف به نفعا له وسعادة ، وإن قلنا بعدم العموم كما جزم به الحليمي والبيهقي والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع وزين الدين العراقي في نكته على ابن الصلاح من الشافعية ومحمود بن حمزة في كتابه العجائب والغرائب من الحنفية بل نقل البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الإجماع عليه وإن لم يسلم قلنا بعدم شموله لهم هنا وإرادة من عداهم منه ، وقيل : هم داخلون هنا في العموم وإن لم نقل ببعثته صلى الله عليه وسلم إليهم لأنهم وقفوا بواسطة إرساله عليه الصلاة والسلام على علوم جمة وأسرار عظيمة مما أودع في كتابه الذي فيه بناء ما كان وما يكون عبارة وإشارة وأي سعادة أعظم من التحلي بزينة العلم ؟ وكونهم عليهم السلام لا يجهلون شيئا مما لم يذهب إليه أحد من المسلمين ، وقيل : لأنهم أظهر من فضلهم على لسانه الشريف ما أظهر .

وقال بعضهم : إن الرحمة في حق الكفار أمنهم ببعثته صلى الله عليه وسلم من الخسف والمسخ والقذف والاستئصال ، وأخرج ذلك الطبراني والبيهقي وجماعة عن ابن عباس ، وذكر أنها في حق الملائكة عليهم السلام الأمن من نحو ما ابتلي به هاروت وماروت ، وأيد بما ذكره صاحب الشفاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام : هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ قال : نعم كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى علي في القرآن بقوله سبحانه : ذي قوة عند ذي العرش مكين [التكوير : 20] وإذا صح هذا الحديث لزم القول بشمول العالمين للملائكة عليهم السلام إلا أن الجلال السيوطي ذكر في تزيين الأرائك أنه لم يوقف له على إسناد ، وقيل المراد بالعالمين جميع الخلق فإن العالم ما سوى الله تعالى وصفاته جل شأنه ، وجمع جمع العقلاء تغليبا للأشرف على غيره .

وكونه صلى الله عليه وسلم رحمة للجميع باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام واسطة الفيض الإلهي على الممكنات على حسب القوابل ، ولذا كان نوره صلى الله عليه وسلم أول المخلوقات ، ففي الخبر أول ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر .

وجاء «الله تعالى المعطي وأنا القاسم » وللصوفية قدست أسرارهم في هذا الفصل كلام فوق ذلك ، وفي مفتاح السعادة لابن القيم أنه لولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معيشة ولا قوام لمملكة ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض ، وكل خير في العالم فمن آثار النبوة وكل شر وقع في العالم أو سيقع فبسبب خفاء آثار النبوة ودروسها فالعالم جسد روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه ، ولهذا إذا انكسفت شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من آثارها البتة انشقت سماؤه وانتشرت كواكبه وكورت شمسه وخسف قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة اهـ وإذا سلم هذا علم منه بواسطة كونه صلى الله عليه وسلم أكمل النبيين وما جاء به أجل مما جاؤوا به عليهم السلام وإن لم يكن في الأصول اختلاف وجه كونه عليه الصلاة والسلام أرسل رحمة للعالمين أيضا لكن لا يخلو ذلك عن بحث .

وزعم بعضهم أن العالمين هنا خاص بالمؤمنين وليس بشيء ، ولواحد من الفضلاء كلام طويل في هذه الآية الكريمة نقض فيه وأبرم ومنع وسلم ولا أرى منشأ سوى قلة الاطلاع على الحق الحقيق بالاتباع ، [ ص: 106 ] وأنت متى أخذت العناية بيدك بعد الاطلاع عليه سهل عليك رده ولم يهولك هزله وجده ، والذي أختاره أنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث رحمة لكل فرد فرد من العالمين ملائكتهم وإنسهم وجنهم ولا فرق بين المؤمن والكافر من الإنس والجن في ذلك ، والرحمة متفاوتة ولبعض من العالمين المعلى والرقيب منها ، وما يرى أنه ليس من الرحمة فهو إما منها في النظر الدقيق أو ليس مقصودا بالقصد الأولى كسائر الشرور الواقعة في العالم بناء على ما حقق في محله أن الشر ليس داخلا في قضاء الله تعالى بالذات ، ومما هو ظاهر في عموم العالمين الكفار ما أخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال : «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة» ولعله يؤيد نصب ( رحمة ) في الآية على الحال كقوله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة «إنما أنا رحمة مهداة » ولا يشين احتمال التعليل ما ذهب إليه الأشاعرة من عدم تعليل أفعاله عز وجل فإن الماتريدية وكذا الحنابلة ذهبوا إلى خلافه وردوه بما لا مزيد عليه ، على أنه لا مانع من أن يقال فيه كما قيل في سائر ما ظاهره التعليل ووجود المانع هنا توهم محض فتدبر ثم لا يخفى أن تعلق ( للعالمين ) برحمة هو الظاهر .

وقال ابن عطية : يحتمل أن يتعلق بأرسلناك ، وفي البحر لا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد إلا بالفعل قبلها إلا إن كان العامل مفرغا له نحو ما مررت إلا بزيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية