صفحة جزء
والخامسة بالنصب عطفا على أربع شهادات وقوله تعالى: أن غضب الله عليها إن كان أي الزوج من الصادقين فيما رماها به من الزنا بتقدير حرف الجر أي بأن غضب إلخ، وجوز أن تكون أن وما بعدها بدلا من ( الخامسة )وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها لما أنها مادة الفجور ولأن النساء كثيرا ما يستعملن اللعن فربما يتجرين على التفوه به لسقوط وقعه عن قلوبهن بخلاف غضبه جل جلاله.

وقرأ طلحة والحسن والأعمش وخالد بن إياس بنصب ( الخامسة) في الموضعين وقد علمت وجه النصب في الثاني، وأما وجه النصب في الأول فهو عطف ( الخامسة ) على أربع شهادات على قراءة من نصب أربع وجعلها مفعولا لفعل محذوف يدل عليه المعنى على قراءة من رفع ( أربع ) أي ويشهد الخامسة، والكلام في أن لعنت إلخ كما سمعت في أن غضب إلخ. وقرأ نافع أن لعنة بتخفيف أن ورفع لعنة وأن غضب بتخفيف أن وغضب فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة، وأن في الموضعين مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولم يؤت بأحد الفواصل بين قد والسين ولا بينها وبين الفعل في الموضع الثاني لكون الفعل في معنى الدعاء فما هناك نظير قوله تعالى: أن بورك من في النار [النمل: 8] فلا غرابة في هذه القراءة خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية .

وقرأ الحسن وأبو رجاء ، وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما «أن لعنة» كقراءة نافع و «أن غضب» بتخفيف «أن» و «غضب» مصدر مرفوع، هذا ظاهر قوله تعالى: والذين يرمون أزواجهم العموم والمذكور في كتب الأصحاب أنه يشترط في القاذف وزوجته التي قذفها أن يكون لهما أهلية أداء الشهادة على المسلم فلا يجري اللعان بين الكافرين والمملوكين ولا إذا كان أحدهما مملوكا أو صبيا أو مجنونا أو محدودا في قذف، ويشترط في الزوجة كونها مع ذلك عفيفة عن الزنا وتهمته بأن لم توطأ حراما لعينه ولو مرة بشبهة أو بنكاح فاسد ولم يكن لها ولد بلا أب معروف في بلد القذف، واشتراط هذا لأن اللعان قائم مقام حد القذف في حق الزوج كما يشير إليه ما قدمناه من الخبر لكن بالنسبة إلى كل زوجة على حدة لا مطلقا ألا ترى أنه لو قذف بكلمة أو كلمات أربع وزوجات له بالزنا لا يجزيه لعان واحد لهن بل لا بد أن يلاعن كلا منهن، ولو قذف أربع أجنبيات كذلك حد حدا واحدا بهن، فمتى لم تكن الزوجة ممن يحد قاذفها كما إذا لم تكن عفيفة لم يتحقق في قذفها ما يوجب الحد ليقام اللعان مقامه، وأما اشتراط كونهما ممن له أهلية أداء الشهادة فلأن اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان عندنا خلافا للشافعي فإنه عنده أيمان مؤكدة وهو الظاهر من قول مالك وأحمد فيقع ممن كان أهلا لليمين وهو ممن يملك الطلاق فكل من يملكه فهو أهل اللعان عنده فيكون من كل زوج عاقل وإن كان كافرا أو عبدا. واستدل على أن اللعان أيمان مؤكدة بقوله سبحانه: فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله وذلك أن قوله تعالى: بالله محكم في اليمين والشهادة محتملة لليمين ألا يرى أنه لو قال: أشهد ينوي به اليمين كان يمينا فيحمل المحتمل على المحكم لأن حمله على حقيقته متعذر لأن المعهود في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه، وكذا المعهود شرعا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فإن تكرره معهود في القسامة، [ ص: 107 ] ولأن الشهادة محلها الإثبات واليمين للنفي فلا يتصور تعلق حقيقتهما بأمر واحد فوجب العمل بحقيقة أحدهما ومجاز الآخر فليكن المجاز لفظ الشهادة لما سمعت من الموجبين.

واستدل أصحابنا على أنه شهادات مؤكدة بأيمان بالآية أيضا لأن الحمل على الحقيقة يجب عند الإمكان وقوله سبحانه وتعالى: ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم أثبت أنهم شهداء لأن الاستثناء من النفي إثبات وجعل الشهداء مجازا عن الحالفين يصير المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم وهو غير مستقيم لأنه يفيد أنه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون لأنفسهم وهذا فرع تصور حلف الإنسان لغيره ولا وجود له أصلا فلو كان معنى اليمين حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا صارفا عنه إلى مجازه كيف وهو مجازي لها ولو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا صارف عن المجاز وما توهم كونه صارفا مما ذكر غير لازم قوله قبول الشهادة لنفسه وتكرر الأداء لا عهد بهما قلنا: وكل من الحلف لغيره والحلف لإيجاب الحكم لا عهد به بل اليمين لرفع الحكم فإن جاز شرعية هذين الأمرين في محل بعينه ابتداء جاز أيضا شرعية ذلك ابتداء بل هي أقرب لعقلية كون التعدد في ذلك أربعا بدلا عما عجز عنه من إقامة شهود الزنا وهم أربع وعدم قبول الشهادة له عند التهمة ولذا تثبت عند عدمها أعظم ثبوت قال الله عز وجل: شهد الله أنه لا إله إلا هو [آل عمران : 18] فغير بعيد أن تشرع عند ضعفها بواسطة تأكيدها باليمين وإلزام اللعنة والغضب إن كان كاذبا مع عدم ترتب موجبها في حق كل من الشاهدين إذ موجب شهادة كل إقامة حد على الآخر وليس ذلك بثابت هنا بل الثابت عند الشهادتين هو الثابت بالأيمان وهو اندفاع موجب دعوى كل عن الآخر، وإنما قيل عندهما ولم يقل بهما لأن هذا الاندفاع ليس موجب الشهادتين بل هو موجب تعارضهما، وأما قوله: واليمين للنفي إلخ فمحله ما إذا وقعت في إنكار دعوى مدع وإلا فقد يحلف على إخبار بأمر نفي أو إثبات وهنا كذلك فإنها على صدقه في الشهادة، والحق أنها على ما وقعت الشهادة به وهو كونه من الصادقين فيما رماها به كما إذا جمع أيمانا على أمر واحد يخبر به فإن هذا هو حقيقة كونها مؤكدة للشهادة إذ لو اختلف متعلقهما لم يكن أحدهما مؤكدا للآخر.

وأورد على اشتراط الأهلية لأداء الشهادة أنهم قالوا: إن اللعان يجري بين الأعميين والفاسقين مع أنه لا أهلية لهما لذلك. ودفع بأنهما من أهل الأداء إلا أنه لا يقبل للفسق ولعدم تمييز الأعمى بين المشهود له وعليه وهنا هو قادر على أن يفصل بين نفسه وزوجته فيكون أهلا لهذه الشهادة دون غيرها، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أن الأعمى لا يلاعن وعمم القهستاني الأهلية فقال: ولو بحكم القاضي والفاسق يصح القضاء بشهادته وكذا الأعمى على القول بصحتها فيما يثبت بالتسامع كالموت والنكاح والنسب وهذا بخلاف المحدود بالقذف فإنه لا يصح القضاء بشهادته، ولعل مراد ابن كمال باشا بقوله: لو قضى بشهادة المحدود بالقذف نفذ نفاذ الحكم بصحتها ممن يراها كشافعي على ما قيل وهو خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من رجع إليه، ويشترط كون القذف في دار الإسلام وكونه بصريح الزنا فلا لعان بـ القذف باللواط عند الإمام وعندهما فيه لعان ولا لعان بالقذف كناية وتعريضا والقذف بصريحه نحو أن يقال: أنت زانية أو يا زانية أو رأيتك تزنين، والمشهور عن مالك أن القذف بالأولين يوجب الحد والذي يوجب اللعان القذف بالأخير وهو قول الليث وعثمان ويحيى بن سعيد ، وضعف بأن الكل رمي بالزنا وهو السبب كما تدل عليه الآية فلا فرق، وبمنزلة القذف بالصريح نفي نسب ولدها منه أو من غيره.

[ ص: 108 ] وفي المحيط والمبتغى إذا نفى الولد فقال: ليس هذا بابني ولم يقذفها بالزنا لا لعان بينهما لأن النفي ليس بقذف لها بالزنا يقينا لاحتمال أن يكون الولد من غيره بوطء شبهة وهو احتمال ساقط لا يلتفت إليه كما حققه زين في البحر، ويشترط في وجوب اللعان طلب الزوجة في مجلس القاضي كما في البدائع إذا كان القذف بصريح الزنا لأن اللعان حقها فإنه لدفع العار عنها وبذلك قالت الأئمة الثلاثة أيضا، وإذا كان القذف بنفي الولد فيشترط طلب القاذف لأنه حقه أيضا لاحتياجه إلى نفي من ليس ولده عنه ويجب عليه هذا النفي إذا تيقن أن الولد ليس منه لما في السكوت أو الإقرار من استلحاق نسب من ليس منه وهو حرام كنفي نسب من هو منه، فقد روى أبو داود والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام قال حين نزلت آية الملاعنة: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله تعالى في شيء ولن يدخلها الله تعالى جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عز وجل عنه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» وإن احتمل أن يكون الولد منه فلا يجب بل قد يباح وقد يكون خلاف الأولى بحسب قوة الاحتمال وضعفه، وقد يضعف الاحتمال إلى حد لا يباح معه النفي كأن أتت امرأته المعروفة بالعفاف بولد لا يشبهه

فعن أبي هريرة «أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم قال ما ألوانها؟ قال: حمر قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم قال: فكيف ذلك؟ قال: نزعه عرق قال: فلعل هذا نزعه عرق»

وذكروا فيما إذا كانت متهمة برجل فأتت بولد يشبهه وجهين إباحة النفي وعدمها، وأما القذف بصريح الزنا فمع التحقق يباح ويجوز أن يستر عليها ويمسكها لظاهر ما

روي من «أن رجلا قال: يا رسول الله إن امرأتي لا ترد يد لامس قال طلقها قال: إني أحبها قال فأمسكها»

وفيه احتمال آخر ذكره شراح الحديث مع عدم التحقق لا يباح ذلك، والأفضل للزوجة أن لا تطالب باللعان وتستر الأمر وللحاكم أن يأمرها وإذا طلبت وقد أقر الزوج بقذفها أو ثبت بالبينة وهي رجلان لا رجل وامرأتان إذ لا شهادة للنساء في الحدود، وما في النهر والدر المنتقى من جواز ذلك سبق قلم لاعن إن كان مصرا وعجز عن البينة على زناها أو على إقرارها به أو على تصديقها له أو أقام البينة على ذلك ثم عمي الشاهدان أو فسقا أو ارتدا وهذا بخلاف ما إذا ماتا أو غابا بعد ما عدلا فإنه حينئذ لا يقضى باللعان فإن امتنع حد حد القذف وكذا إذا لاعن فامتنعت تحد عنده حد الزنا وعندنا تحبس حتى تلاعن أو تصدقه فيرتفع سبب وجوب لعانهما وهو التكاذب على ما قيل، والأوجه كون السبب القذف والتكاذب شرطه: وكما لا لعان مع التصديق إذا كان بلفظ صدقت لا حد عليها ولو أعادت ذلك أربع مرات في مجالس متفرقة لأن التصديق المذكور ليس بإقرار قصدا وبالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في درئه فيندفع به اللعان ولا يجب به الحد وكذا يندفع بذلك كما في كافي الحاكم الحد عن قاذفها بعد ولو صدقته في نفي الولد فلا حد ولا لعان أيضا وهو ولدهما لأن النسب إنما ينقطع بحكم اللعان ولم يوجد وهو حق الولد فلا يصدقان في إبطاله وما في شرحي الوقاية والنقاية من أنها إذا صدقته ينتفي غير صحيح كما نبه عليه في شرح الدرر والغرر.

ووجه قول الشافعي بالحد عند الامتناع أن الواجب بالقذف مطلقا الحد لعموم قوله سبحانه: والذين يرمون المحصنات إلخ إلا أنه يتمكن من دفعه فيما إذا كانت المقذوفة زوجة باللعان تخفيفا عليه فإذا لم يدفعه به يحد وكذا المرأة تلاعن بعد ما أوجب الزوج عليها اللعان بلعانه فإذا امتنعت حدت للزنا ويشير إليه قوله [ ص: 109 ] سبحانه وتعالى: ويدرأ عنها العذاب ووجه قولنا إن قوله تعالى: والذين يرمون أزواجهم إلى قوله تعالى: فشهادة أحدهم إلخ يفهم منه كيفما كانت القراءة أن الواجب في قذف الزوجات اللعان ولا ينكر ذلك إلا مكابر فإما أن يكون ناسخا أو مخصصا لعموم ذلك العام والظاهر عندنا كونه ناسخا لتراخي نزوله كما تشهد له الأخبار الصحيحة والمخصص لا يكون متراخي النزول وعلى التقديرين يلزم كون الحكم الثابت في قذف الزوجات إنما هو ما تضمنته الآية من اللعان حال قيام الزوجية كما هو الظاهر فلا يجب غيره عند الامتناع عن إيفائه بل يحبس لإيفائه كما في كل حق امتنع من هو عليه عن إيفائه ولم يتعين كون المراد من العذاب في الآية الحد لجواز كونه الحبس وإذا قام الدليل على أن اللعان هو الواجب وجب حمله عليه.

قيل: والعجب من الشافعي عليه الرحمة لا يقبل شهادة الزوج عليها بالزنا مع ثلاثة عدول ثم يوجب الحد عليها بقوله وحده وإن كان عبدا فاسقا، وأعجب منه أن اللعان يمين عنده وهو لا يصلح لإيجاب المال ولا لإسقاطه بعد الوجوب وأسقط به كل من الرجل والمرأة الحد عن نفسه وأوجب به الرجم الذي هو أغلظ الحدود على المرأة، فإن قال: إنما يوجب عليها لنكولها بامتناعها عن اللعان قلنا: هو أيضا من ذلك العجب فإن كون النكول إقرارا فيه شبهة والحد مما يندفع بها مع أنه غاية ما يكون بمنزلة إقراره مرة، ثم إن هذه الشبهة أثرت عنده في منع إيجاب المال مع أنه يثبت مع الشبهة فكيف يوجب الرجم به وهو أغلظ الحدود وأصعبها إثباتا وأكثرها شروطا انتهى، وليراجع في ذلك كتب الشافعية. وفي النهر نقلا عن الأسبيجابي أنهما يحبسان إذا امتنعا عن اللعان بعد الثبوت، ثم قال: وينبغي حمله على ماذا لم تعف المرأة كما في البحر، وعندي في حبسها بعد امتناعه نوع إشكال لأن اللعان لا يجب عليها إلا بعد لعانه فقبله ليس امتناعا لحق وجب عليها انتهى.

وأجاب الطحاوي بأنه بعد الترافع منهما صار إمضاء اللعان حق الشرع فإذا لم تعف وأظهرت الامتناع تحبس بخلاف ما إذا أبى هو فقط فلا تحبس انتهى.

وقيل: ليس المراد امتناعهما في آن واحد بل المراد امتناعه بعد المطالبة به وامتناعها بعد لعانه فتأمل.

والمتبادر من الشهادة ما كان قولا حقيقة، ولذا قالوا: لا لعان لو كانا أخرسين أو أحدهما لفقد الركن وهو لفظ أشهد، وعلل أيضا بأن هناك شبهة احتمال تصديق أحدهما للآخر لو كان ناطقا والحد يدرأ بالشبهة وكتابة الأخرس في هذا الفصل كإشارته لا يعول عليها، وذكروا لو طرأ الخرس بعد اللعان قبل التفريق فلا تفريق ولا حد، ويشعر ظاهر الآية بتقديم لعان الزوج وهو المأثور في السنة فلو بدأ القاضي بأمرها فلاعنت قبله فقد أخطأ السنة ولا يجب كما في الغاية أن تعيد لعانها بعد وبه قال مالك .

وفي البدائع ينبغي أن تعيد لأن اللعان شهادة المرأة وشهادتها تقدح في شهادة الزوج فلا تصح إلا بعد وجود شهادته ولهذا يبدأ بشهادة المدعي في باب الدعوى ثم بشهادة المدعى عليه بطريق الدفع له، ونقل ذلك عن الشافعي وأحمد عليهما الرحمة وأشهب من المالكية، والوجه ما تقدم فقد أعقب في الآية الرمي بشهادة أحدهم وشهادتها الدارئة عنها العذاب فيكون هذا المجموع بعد الرمي، وليس في الآية ما يدل على الترتيب بين أجزاء المجموع، وهذا نظير ما قرره بعض ( أجلة ) الأصحاب في قوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق [المائدة: 6] الآية في بيان أنه لا يدل على فرضية الترتيب كما يقوله الشافعية، وظاهر الآية أنه لا يجب في لعانه أن يأتي بضمير المخاطبة ولا في لعانها أن تأتي بضمير المخاطب، ففي الهداية صفة للعان أن [ ص: 110 ] يبتدئ به القاضي فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا يشير في جميع ذلك ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا والأصل فيه الآية، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يأتي بلفظة المواجهة ويقول فيما رميتك به من الزنا أي وتأتي هي بذلك أيضا وتقول: إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من الزنا لأنه أقطع للاحتمال وهو احتمال إضمار مرجع للضمير الغائب غير المراد، ووجه الأول أن لفظة المغايبة إذا انضمت إليها الإشارة انقطع الاحتمال، وعن الليث أنه يكتفى في اللعان بالكيفية المذكورة في الآية ويأتي الملاعن مكان ضمير الغائب بضمير المتكلم في شهادته مطلقا وتأتي الملاعنة بذلك في شهادتها الخامسة فتدخل على (علي ياء الضمير، والمراد من الاكتفاء بالكيفية المذكورة أنه لا يحتاج إلى زيادة فيما رميتها به من الزنا في شهادته وإلى زيادة فيما رماني به من الزنا في شهادتها، وما ذكر من الإتيان بضمير المتكلم هو الظاهر ولم يؤت به في النظم الكريم لتتسق الضمائر وتكون في جميع الآية على طرز واحد مع ما في ذلك من نكتة رعاية التالي على ما قيل، وليس في الآية التفات أصلا كما توهم بعض من أدركناه من فضلاء العصر، وأما ما أشير من عدم الاحتياج إلى زيادة ما تقدم فالظاهر أن الأحوط خلافه وقد جاءت تلك الزيادة فيما وقع في زمانه صلى الله عليه وسلم من اللعان بين هلال وزوجته على ما في بعض الروايات، وذكر الأصحاب أنه يزيد في صورة اللعان بالقذف بنفي الولد بعد قوله: لمن الصادقين قوله فيما رميتك به من نفي الولد وأنها تزيد بعد لمن الكاذبين قولها: فيما رميتني به من نفي الولد: ولو كان القذف بالزنا ونفي الولد ذكر في اللعان الأمران، ونقل أبو حيان عن مالك أن الملاعن يقول: أشهد بالله إني رأيتها تزني والملاعنة تقول أشهد بالله ما رآني أزني وعن الشافعي أن الزوج يقول: أشهد بالله إني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ويشير إليها إن كانت حاضرة أربع مرات ثم يقعده الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه فإن لم يمتنع تركه وحينئذ يقول الخامسة ويأتي بياء الضمير مع (على وإن كان قد قذفها بأحد يسميه بعينه واحدا أو اثنين في كل شهادة، وإن نفى ولدها زاد وإن هذا الولد ولد زنا ما هو مني، والتخويف بالله عز وجل مشروع في حق المتلاعنين، فقد صح في قصة هلال أنه لما كان الخامسة قيل له: اتق الله تعالى واحذر عقابه فإن عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العقاب، وقيل: نحو ذلك لامرأته عند الخامسة أيضا.

وفي ظاهر الآية رد على الشافعي عليه الرحمة حيث قال إنه بمجرد لعان الزوج تثبت الفرقة بينهما وذلك لأن المتبادر أنها تشهد الشهادات وهي زوجة ومتى كانت الفرقة بلعان الزوج لم تبق زوجة عند لعانها، والذي ذهب إليه أبو حنيفة عليه الرحمة أنه إذا وقع التلاعن تثبت حرمة الوطء ودواعيه عن الملاعن فإن طلقها فذاك وإن لم يطلقها بانت بتفريق الحاكم وإن لم يرضيا بالفرقة، ولو فرق خطأ بعد وجود الأكثر من كل منهما صح، ويشترط كون التفريق بحضورهما وحضور الوكيل كحضور الأصيل ويتوارثان قبله، ولو زالت أهلية اللعان بعده فإن كان بما يرجى زواله كجنون فرق وإلا لا، وقال زفر : تقع الفرقة بتلاعنهما وإن أكذب نفسه من بعد اللعان والتفريق وحد أم لم يحد يحل له تزوجها عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف إذا افترق المتلاعنان [ ص: 111 ] فلا يجتمعان أبدا وتثبت بينهما حرمة كحرمة الرضاع وبه قالت الأئمة الثلاثة، وأدلة هذه الأقوال وما لها وما عليها تطلب من كتب الفقه المبسوطة، واستدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين فإن قوله: لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه وتعليقه على ذلك لا يخرجه عن التعيين، نعم يقال إن مشروعيته إن كان صادقا فلو كان كاذبا فلا يحل له، واستدل الخوارج على أن الكذب كفر لاستحقاق من يتصف به اللعن وكذا الزنا كفر لاستحقاق فاعله الغضب فإن كلا من اللعن والغضب لا يستحقه إلا الكافر لأن اللعن الطرد عن الرحمة وهو لا يكون إلا لكافر والغضب أعظم منه، وفيه أنه لا يسلم أن اللعن في أي موضع وقع بمعنى الطرد عن الرحمة فإنه قد يكون بمعنى الإسقاط عن درجة الأبرار وقد يقصد به إظهار خساسة الملعون، وكذا لا يسلم اختصاص الغضب بالكافر وإن كان أشد من اللعن والله تعالى أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية