صفحة جزء
ويوم تشقق السماء بالغمام العامل في ( يوم ) إما اذكر أو ينفرد الله تعالى بالملك الدال عليه قوله تعالى: الملك يومئذ الحق للرحمن وقيل: العامل ذاك بمعناه المذكور، وقيل: إنه معطوف على ( يومئذ ) أو ( يوم يرون ) وتشقق تتفتح، والتعبير به دونه للتهويل، وأصله تتشقق فحذفت إحدى التاءين كما في تلظى وقرأ الحرميان وابن عامر بإدغام التاء في الشين لما بينهما من المقاربة، والظاهر أن المراد بالسماء المظلة لنا، وبالغمام السحاب المعروف، والباء الداخلة عليه باء السبب، أي: تشقق السماء بسبب طلوع الغمام منها، ولا مانع من أن تشقق به كما يشق السنام بالشفرة، والله تعالى على كل شيء قدير، وحديث امتناع الخرق على السماء حديث خرافة.

وقيل: باء الحال وهي باء الملابسة، واستظهره بعضهم، أي: تشقق متغيمة، وقيل: بمعنى عن وإليه ذهب الفراء .

والفرق بين قولك انشقت الأرض بالنبات وانشقت عنه أن معنى الأول أن الله تعالى شقها بطلوعه فانشقت به، ومعنى الثاني أن التربة ارتفعت عنه عند طلوعه، وقيل: المراد بالغمام غمام أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم.

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد أنه الغمام الذي يأتي الله تعالى فيه يوم القيامة المذكور في قوله سبحانه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام قال ابن جريج : وهو غمام زعموا أنه في الجنة، وعن مقاتل أن المراد بالسماء ما يعم السماوات كلها وتشقق سماء سماء، وروي ذلك عن ابن عباس ، فقد أخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في الأهوال وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه - رضي الله تعالى عنه - أنه قرأ هذه الآية إلى قوله تعالى: ونزل الملائكة تنزيلا أي تنزيلا عجيبا غير معهود، فقال: يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد، الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق، فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس وجميع الخلق، فيحيطون بجميعهم فتقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن الجن والإنس وجميع الخلق، فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن والإنس وجميع الخلق، ثم تنشق السماء الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والدنيا وجميع الخلق، فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلق، ثم ينزل أهل السماء الرابعة، وهم أكثر من أهل الثالثة والثانية والأولى وأهل الأرض، ثم ينزل أهل السماء الخامسة وهم أكثر ممن تقدم، ثم أهل السماء السادسة كذلك، ثم أهل السماء السابعة وهم أكثر من أهل السماوات وأهل الأرض، ثم ينزل ربنا في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السماوات السبع والإنس والجن وجميع الخلق، لهم قرون ككعوب القنا وهم تحت العرش، لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى، ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام، ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام، وما فوق ذلك [ ص: 10 ] خمسمائة عام، ونزول الرب جل وعلا من المتشابه ، وكذا قوله: «وحوله الكروبيون» وأهل التأويل يقولون: المراد بذلك نزول الحكم والقضاء، فكأنه قيل: ثم ينزل حكم الرب وحوله الكروبيون أي معه، وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وعظم أجسامهم فلا يمنع عنه ما يشاهد من صغر الأرض لأن الأرض يومئذ تمتد بحيث تسع أهلها وأهل السماوات أجمعين، وسبحان من لا يعجزه شيء، ثم الخبر ظاهر في أن الملائكة عليهم السلام لا ينزلون في الغمام ، وذكر بعضهم في الآية أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف الأعمال، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «ونزل» ماضيا مبنيا للفاعل مشددا، وعنه أيضا «وأنزل» مبنيا للفاعل، وجاء مصدره تنزيلا وقياسه إنزالا إلا أنه لما كان معنى أنزل ونزل واحدا جاء مصدر أحدهما للآخر كما قال الشاعر:


حتى تطويت انطواء الخصب



كأنه قال: حتى انطويت، وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية «وأنزل» ماضيا رباعيا مبنيا للمفعول، وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو «ونزل» ثلاثيا مخففا مبنيا للفاعل، وقرأ أبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو «ونزل» بضم النون وشد الزاي وكسرها ونصب «الملائكة» وخرجها ابن جني بعد أن نسبها إلى ابن كثير وأهل مكة على أن الأصل «ننزل» كما وجد في بعض المصاحف فحذفت النون التي هي فاء الفعل تخفيفا لالتقاء النونين، وقرأ أبي: (ونزلت) ماضيا مشددا مبنيا للمفعول بتاء التأنيث، وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو : (ونزل) مخففا مبنيا للمفعول و«الملائكة» بالرفع فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، والتقدير: ونزل نزول الملائكة، فحذف النزول ونقل إعرابه إلى الملائكة، بمعنى نزل نازل الملائكة؛ لأن المصدر يكون بمعنى الاسم اهـ.

وقال الطيبي : قال ابن جني : نزل بالبناء للمفعول غير معروف؛ لأن نزل لا يتعدى إلى مفعول به، ولا يقاس بجن حيث إنه مما لا يتعدى إلى المفعول، فلا يقال: جنه الله تعالى بل أجنه الله تعالى، وقد بني للمفعول لأنه شاذ، والقياس عليه مردود، فإما أن يكون ذلك لغة نادرة، وإما أن يكون من حذف المضاف، أي نزل نزول الملائكة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، قال العجاج :


حتى إذا اصطفوا له حذارا

فحذارا منصوب مصدرا لا مفعولا به، يريد اصطفوا له اصطفافا حذارا، ونزل نزول الملائكة على حد قولك: هذا نزول منزول وصعود مصعود وضرب مضروب، وقريب منه، وقد قيل قول، وقد خيف منه خوف، فاعرف ذلك فإنه أمثل ما يحتج به لهذه القراءة اهـ.

وهو أحسن من كلام صاحب اللوامح، وعن أبي عمرو أيضا أنه قرأ «وتنزلت الملائكة» فهذه مع قراءة الجمهور وما في بعض المصاحف عشرة قراءات، وما كان منها بصيغة المضارع وجهه ظاهر، وأما ما كان بصيغة الماضي فوجهه على ما قيل الإشارة إلى سرعة الفعل.

التالي السابق


الخدمات العلمية