صفحة جزء
قوله تعالى: ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ... إلخ، بيان لبعض دلائل التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والهمزة للتقرير، والرؤية بصرية؛ لأنها التي تتعدى بإلى، وفي الكلام مضاف مقدر حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، أي: ألم تنظر إلى صنع ربك؛ لأنه ليس المقصود رؤية ذات الله - عز وجل – وكون (إلى) اسما واحد الآلاء - وهي النعم - بعيد جدا.

وجوز أن تكون علمية، وليس هناك مضاف مقدر، وتعديتها بإلى لتضمين معنى الانتهاء، أي: ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل، والأول أولى.

وذكر بعض الأجلة أنه يحتمل أن يكون حق التعبير: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل؛ [ ص: 26 ] إشعارا بأن المعقول المفهوم من هذا الكلام لوضوح برهانه، وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه.

وقال الفاضل الطيبي : لو قيل: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك كان الانتقال من الأثر إلى المؤثر، والذي عليه التلاوة كان عكسه والمقام يقتضيه؛ لأن الكلام في تقريع القوم وتجهيلهم في اتخاذهم الهوى إلها مع وضوح هذه الدلائل، ولذلك جعل ما يدل على ذاته تعالى مقدما على أفعاله في سائر آياته وهو الذي جعل لكم الليل وهو الذي أرسل الرياح ولو شئنا لبعثنا .

وروى السلمي في الحقائق عن بعضهم مخاطبة العام: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ومخاطبة الخاص: ألم تر إلى ربك انتهى.

وفي الإرشاد: لعل توجيه الرؤية إليه سبحانه - مع أن المراد تقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام لكيفية مد الظل - للتنبيه على أن نظره - عليه الصلاة والسلام - غير مقصور على ما يطالعه من الآثار والصنائع، بل مطمح أنظاره - صلى الله عليه وسلم - معرفة شؤون الصانع المجيد - جل جلاله - ولعل هذا هو سر ما روي عن السلمي .

وقيل: إن التعبير المذكور للإشعار بأن المقصود العلم بالرب علما يشبه الرؤية، ونقل الطبرسي عن الزجاج أنه فسر الرؤية بالعلم، وذكر أن الكلام من باب القلب، والتقدير: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك ولا حاجة إلى ذلك.

والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - لتشريفه - صلى الله عليه وسلم - وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار ربوبيته تعالى ورحمته جل وعلا.

و ( كيف ) منصوب بـ(مد) على الحالية، وهي معلقة لـ(تر) إن لم تكن الجملة مستأنفة، وفي البحر: إن الجملة الاستفهامية التي يتعلق عنها فعل القلب ليس باقية على حقيقة الاستفهام وفيه بحث. وذكر بعض الأفاضل أن كيف للاستفهام، وقد تجرد عن الاستفهام وتكون بمعنى الحال، نحو: انظر إلى كيف تصنع، وقد جوزه الدماميني في هذه الآية على أنه بدل اشتمال من المجرور، وهو بعيد، انتهى، ولا يخفى أنه يستغنى على ذلك عن اعتبار المضاف، لكنه لا يعادل البعد.

والمراد بالظل - على ما رواه جماعة عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والحسن ، وأيوب بن موسى ، وإبراهيم التيمي ، والضحاك ، وأبي مالك الغفاري ، وأبي العالية ، وسعيد بن جبير -: ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وذلك أطيب الأوقات؛ فإن الظلمة الخالصة تنفر عنها الطباع وتسد النظر، وشعاع الشمس يسخن الجو ويبهر البصر، ومن هنا كان ظل الجنة ممدودا كما قال سبحانه: وظل ممدود .

وقيل: المراد به ما يكون من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس عند ابتداء طلوعها، ومد الظل من باب ضيق فم القربة، فالمعنى: ألم تنظر إلى صنع ربك كيف أنشأ ظلا، أي: مظلا كان عند ابتداء طلوع الشمس ممتدا إلى ما شاء الله عز وجل، واختاره شيخ الإسلام، وتعقب ما تقدم بقوله: غير سديد إذ لا ريب في أن المراد تنبيه الناس على عظيم قدرة الله - عز وجل - وبالغ حكمته سبحانه فيما يشاهدونه، فلا بد أن يراد بالظل ما يتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضح الشمس، وما ذكر - وإن كان في الحقيقة ظلا للأفق الشرقي - لكنهم لا يعدونه ظلا ولا يصفونه بأوصافه المعهودة اهـ، وفيه منع ظاهر، وهو أظهر على ما ذكره أبو حيان في الاعتراض على ذلك من أنه لا يسمى ظلا، فقد قال الراغب - وكفى به حجة في اللغة -: الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء، فإنه يقال: ظل الليل وظل الجنة، ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل، ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس، انتهى، وظاهر قوله تعالى: وظل ممدود في وصف الجنة يقتضي أنهم يعدون مثل ما ذكر ظلا.

وقيل: هو ما كان من غروب [ ص: 27 ] الشمس إلى طلوعها، وحكي ذلك عن الجبائي والبلخي ، وقيل: هو ما كان يوم خلق الله تعالى السماء وجعلها كالقبة، ودحا الأرض من تحتها، فألقت ظلها عليها، وليس بشيء، وإن فسر ( ألم تر ) بـ (ألم تعلم) لما في تطبيق ما يأتي من تتمة الآية عليه من التكلف وارتكاب خلاف الظاهر، وربما يفوت عليه المقصود الذي سيق له النظم الكريم، وربما يختلج في بعض الأذهان جواز أن يراد به ما يشمل جميع ما يصدق عليه أنه ظل فيشمل ظل الليل وما بين الفجر وطلوع الشمس وظل الأشياء الكثيفة المقابلة للشمس كالجبال وغيرها، فإذا شرع في تطبيق الآية على ذلك عدل عنه كما لا يخفى، وللصوفية في ذلك كلام طويل سنذكر - إن شاء الله تعالى - شيئا منه، وجمهور المفسرين على الأول، والقول الثاني أسلم من القال والقيل.

وقوله تعالى: ولو شاء لجعله ساكنا جملة اعتراضية بين المتعاطفين للتنبيه من أول الأمر على أنه لا مدخل للأسباب العادية من قرب الشمس إلى الأفق الشرقي على الأول، أو قيام الشاخص الكثيف على الثاني، وإنما المؤثر فيه حقيقة المشيئة والقدرة، ومفعول المشيئة محذوف - وهو مضمون الجزاء - كما هو القاعدة المستمرة في أمثال هذا التركيب، أي: ولو شاء جعله ساكنا لجعله ساكنا أي ثابتا على حاله ظلا أبدا، كما فعل - عز وجل - في ظل الجنة، أو لجعله ثابتا على حاله من الطول والامتداد، وذلك بأن لا يجعل سبحانه للشمس على نسخه سبيلا، بأن يطلعها ولا يدعها تنسخه، أو بأن لا يدعها تغيره باختلاف أوضاعها بعد طلوعها.

وقيل: بأن يجعلها بعد الطلوع مقيمة على وضع واحد وليس بذاك، وإنما عبر عن ذلك بالسكون قيل: لما أن مقابله - الذي هو زواله - لما كان تدريجيا كان أشبه شيء بالحركة، وقيل: لما أن مقابله - الذي هو تغير حاله حسب تغير الأوضاع بين الظل وبين الشمس - يرى رأي العين حركة وانتقالا.

وأفاد الزمخشري أنه قوبل مد الظل - الذي هو انبساطه وامتداده - بقوله تعالى: ساكنا والسكون إنما يقابل الحركة، فيكون قد أطلق مد الظل على الحركة مجازا من باب تسمية الشيء باسم ملابسه أو سببه كما قرره الطيبي ، وذكر أنه عدل عن (حرك) إلى (مد) مع أنه أظهر من (مد) في تناوله الانبساط والامتداد ليدمج فيه معنى الانتفاع المقصود بالذات، وهو معرفة أوقات الصلوات، فإن اعتبار الظل فيها بالامتداد دون الانبساط، وتمم معنى الإدماج بقوله تعالى:

التالي السابق


الخدمات العلمية