صفحة جزء
ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا أي: بالتدرج والمهل لمعرفة الساعات والأوقات، وفيه لمحة من معنى قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس اهـ.

ولا يبعد أن يقال: إن التعبير بـ(مد) لما أن الظل المذكور ظل الأفق الشرقي، وقد اعتبر المشرق والمغرب طرفي جهتي الأرض طولا، والشمال والجنوب طرفي جهتيها عرضا، أو لأن ظهوره في الأرض وطول المعمور منها - الذي يسكنه من يشاهد الظل - أكثر من عرض المعمور منها، إذ الأول - كما هو المشهور - نصف دور أعني مائة وثمانين درجة، والثاني دون ذلك على جميع الأقوال فيه، فيكون الظل بالنظر إلى الرائين في المعمور من الأرض ممتدا ما بين جهتي شرقيه وغربيه أكثر مما بين جهتي شماليه وجنوبيه، وربما يقال: إن ذلك لما أن مبدأ الظل الفجر الأول وضوؤه يرى مستطيلا ممتدا كذنب السرحان، ويلتزم القول بأنه لا يذهب بالكلية - وإن ضعف - بل يبقى حتى يمده ضوء الفجر الثاني، فيرى منبسطا، والله تعالى أعلم.

وقوله سبحانه: ثم جعلنا الشمس عليه دليلا عطف على ( مد ) داخل في حكمه، أي: ثم جعلنا طلوع الشمس دليلا على ظهوره للحس؛ فإن الناظر إلى الجسم الملون حال قيام [ ص: 28 ] الظل عليه لا يظهر له شيء سوى الجسم ولونه، ثم إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم ظهر له أن الظل كيفية زائدة على الجسم ولونه.


والضد يظهر حاله الضد



قاله الرازي والطبري وغيرهما.

وقيل: أي: ثم جعلناها دليلا على وجوده، أي: علة له لأن وجوده بحركة الشمس إلى الأفق وقربها منه عادة، ولا يخفى ما فيه، أو ثم جعلناها علامة يستدل بأحوالها المتغيرة على أحواله من غير أن يكون بينهما سببية وتأثير قطعا، حسبما نطق به الشرطية المعترضة، ومن الغريب - الذي لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى المجيد - أن على بمعنى مع، أي: ثم جعلنا الشمس مع الظل دليلا على وحدانيتنا، على معنى: جعلنا الظل دليلا وجعلنا الشمس دليلا على وحدانيتنا.

والالتفات إلى نون العظمة للإيذان بعظم قدر هذا الجعل لما يستتبعه من المصالح التي لا تحصى، أو لما في الجعل المذكور العاري عن التأثير - مع ما يشاهد بين الظل والشمس من الدوران المطرد المنبئ عن السببية - من مزيد الدلالة على عظم القدرة ودقة الحكمة، و(ثم) إما للتراخي الرتبي ويعلم وجهه مما ذكر، وإما للتراخي الزماني كما هو حقيقة معناها بناء على طول الزمان بين ابتداء الفجر وطلوع الشمس.

وقوله سبحانه: ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا عطف على مد داخل في حكمه أيضا، أي: ثم أزلناه بعدما أنشأناه ممتدا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه، أو بإيقاعه كذلك، ومحوناه على مهل قليلا قليلا حسب سير الشمس، وهذا ظاهر على القول بأن المراد بالظل ظل الشاخص من جبل ونحوه، وأما على القول بأن المراد به ما بين الطلوعين فلأنه إذا عم لا يزول دفعة واحدة بطلوع الشمس في أفق؛ لكروية الأرض واختلاف الآفاق، فقد تطلع في أفق ويزول ما عند أهله من الظل وهي غير طالعة في أفق آخر وأهله في طرف من ذلك الظل، ومتى ارتفعت عن الأفق الأول حتى بانت من أفقهم زال ما عندهم من الظل، فزوال الظل بعد عمومه تدريجي، كذا قيل.

وقيل: لا حاجة إلى ذلك، فإن زواله تدريجي نظرا إلى أفق واحد أيضا، بناء على أنه يبقى منه بعد طلوع الشمس ما لم يقع على موقعه شعاعها لمانع جبل ونحوه، ويزول ذلك تدريجا حسب حركة الشمس ووقوع شعاعها على ما لم يقع عليه ابتداء طلوعها، وكأن التعبير عن تلك الإزالة بالقبض - وهو كما قال الطبرسي : جمع الأجزاء المنبسطة - لما أنه قد عبر عن الأحداث بالمد.

وقوله سبحانه: إلينا للتنصيص على كون مرجع الظل إليه - عز وجل - لا يشاركه حقيقة أحد في إزالته، كما أن حدوثه منه سبحانه لا يشاركه حقيقة فيه أحد، وثم يحتمل أن تكون للتراخي الزماني وأن تكون للتراخي الرتبي نحو ما مر.

ومن فسر الظل بما كان يوم خلق الله تعالى السماء كالقبة ودحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها جعل معنى ثم جعلنا إلخ: ثم خلقنا الشمس وجعلناها مسلطة على ذلك الظل، وجعلناها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق، فهو يزيد وينقص ويمتد ويقلص، ثم قبضناه قبضا سهلا لا عسر فيه.

ويحتمل أن يكون قبضه عند قيام الساعة بقرينة (إلينا) وكذا ( يسيرا ) وذلك بقبض أسبابه، وهي الأجرام التي تلقي الظل، فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه، والتعبير بالماضي لتحققه ولمناسبة ما ذكر معه، وثم للتراخي الزماني، وفيه ما فيه كما أشرنا إليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية