صفحة جزء
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله استئناف جيء به لبيان كيفية الإنفاق الذي بين فضله. ثم لا يتبعون ما أنفقوا أي إنفاقهم أو ما أنفقوه منا على المنفق عليه ولا أذى أي له، والمن عبد الإحسان وهو في الأصل القطع، ومنه قوله: (حبل منين) أي ضعيف وقد يطلق على النعمة لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه، والأذى التطاول والتفاخر على المنفق عليه بسبب إنفاقه، وإنما قدم المن لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة (لا) لشمول النفي لاتباع كل واحد منهما، و (ثم) للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى في الرتبة والبعد بينهما في الدرجة، وقد استعيرت من معناها الأصلي وهو تباعد الأزمنة لذلك وهذا هو المشهور في أمثال هذه المقامات .

وذكر في «الانتصاف» وجها آخر في ذلك ((وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه وعلى هذا لا تخرج عن الإشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ومعناها المستعار له دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه، وعليه يحمل قوله تعالى: " ثم استقاموا " أي داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد، وتلك الاستقامة هي المعتبرة لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات، وكذلك ثم لا يتبعون الخ، أي يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ليسوا بتاركيه في أزمنة ثم يثوبون إلى الإيذاء وتقليد المن، وبسببه مثله يقع في السين نحو إني ذاهب إلى ربي سيهدين إذ ليس لتأخر الهداية معنى فيحمل على دوام الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها)) وهو كلام حسن ولعله أولى مما ذكروه لأنه أبقى للحقيقة وأقرب للوضع على أحسن طريقة.

والآية كما أخرج الواحدي عن الكلبي -والعهدة عليه- نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، أما عبد الرحمن فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة، فقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف أقرضها ربي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت "، وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فقال: علي جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وتصدق برومة ركية كانت له على المسلمين، وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول: " يا رب عثمان بن عفان رضيت عنه فارض عنه فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر " فأنزل الله تعالى فيه الذين ينفقون الخ.

لهم أجرهم حسبما وعد لهم في ضمير التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول، وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله تعالى: لهم عند ربهم من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وكان مقتضى الظاهر أن يدخل الفاء في حيز الموصول لتضمنه معنى الشرط كما في قولك: الذي يأتيني فله درهم، لكنه عدل عن ذلك إيهاما بأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما ركز في نفوسهم من نية الخير لا لوصف الإنفاق فإن الاستحقاق به استحقاق وصفي، وفيه ترغيب دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق، وجوز أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن [ ص: 34 ] ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المن والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببيةولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 262 ] المراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما وقد تقدم الكلام على نظيرها.

التالي السابق


الخدمات العلمية