صفحة جزء
وهو الذي مرج البحرين أي أرسلهما في مجاريهما، كما يرسل الخيل في المرج، كما روي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ويقال في هذا: أمرج أيضا على ما قيل، إلا أن مرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد.

وأصل المرج - كما قال الراغب - الخلط، ويقال: مرج أمرهم أي: اختلط، وسمي المرعى مرجا لاختلاط النبات فيه، والمراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح من غير تخصيص ببحرين معينين، وهذا رجوع إلى ما تقدم من ذكر الأدلة، وقوله تعالى: هذا عذب فرات إلخ، أي: شديد العذوبة، ووزنه فعال من فرته وهو مقلوب من رفته إذا كسره؛ لأنه يكسر سورة العطش ويقمعها، وقيل: هو البارد كما في مجمع البيان، إما استئناف أو حال بتقدير القول أي: يقال فيهما: هذا عذب فرات.

وهذا ملح أجاج وقيل: هي حال من [ ص: 34 ] غير تقدير قول، على معنى: مرج البحرين مختلفين عذوبة شديدة وملوحة كذلك، واسم الإشارة يغني غناء الضمير، والأجاج شديد الملوحة كما أشرنا إليه، أطلق عليه؛ لأن شربه يزيد أجيج العطش، وقال الراغب : هو شديد الملوحة والحرارة، من أجيج النار انتهى، وقيل: هو المر، وحكاه الطبرسي عن قتادة ، وقيل: الحار، فهو يقابل الفرات عند من فسره بالبارد.

وقرأ طلحة بن مصرف ، وقتيبة ، عن الكسائي «ملح» بفتح الميم وكسر اللام هنا وكذا في (فاطر)، قال أبو حاتم : وهذا منكر في القراءة، وقال أبو الفتح : أراد مالحا فخفف بحذف الألف، كما قيل برد في بارد في قوله:


أصبح قلبي صردا

لا يشتهي أن يردا

    إلا عرادا عردا


وصليانا بردا

    وعكنا ملتبدا



وقيل: مخفف مليح؛ لأنه ورد بمعنى مالح، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح: هي لغة شاذة قليلة، فليس مخففا من شيء، نعم هو كملح في قراءة الجمهور بمعنى مالح، والأفصح أن يقال في وصف الماء: ماء ملح دون ماء مالح - وإن كان صحيحا - كما نقل الأزهري ذلك عن الكسائي ، وقد اعترف أيضا بصحته ثعلب، وقال الخفاجي : الصحيح أنه مسموع من العرب ، كما أثبته أهل اللغة وأنشدوا لإثباته شواهد كثيرة، وعليه فمن خطأ الإمام أبا حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بقوله: (ماء مالح) فقد أخطأ جاهلا بقدر هذا الإمام.

وجعل بينهما برزخا أي حاجزا، وهو لفظ عربي، وقيل: أصله (برزه) فعرب، والمراد بهذا الحاجز - كما أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن - ما يحول بينهما من الأرض كالأرض الحائلة بين دجلة، ويقال لها بحر لعظمها ولشيوع إطلاق البحر على النهر العظيم صار حقيقة فيه أيضا، فلا إشكال في التثنية، وإن أبيت صيرورته حقيقة فاعتبار التغليب يرفع الإشكال بينه وبين البحر الكبير، والمراد حيلولتها في مجاريها وإلا فهي تنتهي إلى البحر وكذا سائر الأنهار العظام، ودلالة هذا الجعل على كمال قدرته - عز وجل - كونه على خلاف مقتضى الطبيعة، فإن مقتضى طبيعة الماء أن يكون متضام الأجزاء مجتمعا غامرا للأرض محيطا بها من جميع جهاتها إحاطة الهواء به، ومقتضى طبيعة الأرض أن تكون متضامة الأجزاء أيضا لا غور فيها ولا نجد، مغمورة بالماء، واقعة في جوفه كمركز الدائرة، كما قرر ذلك الفلاسفة، وذكروا في سبب انكشاف ما انكشف من الأرض ووقوع الأغوار والأنجاد فيها ما لا يخلو عن قيل وقال.

وبينهما ظرف لـ(جعل) ويجوز أن يكون حالا من برزخا والظاهر أن تنوين برزخا للتعظيم، أي: وجعل بينهما برزخا عظيما، حيث إنه على كثرة مرور الدهور لا يتخلله ماء أحد البحرين حتى يصل إلى الآخر فيغير طعمه وحجرا محجورا أي: وتنافرا مفرطا، كأن كلا منهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة، والمراد لزوم كل منهما لصفته من العذوبة والملوحة، فلا ينقلب البحر العذب ملحا في مكانه ولا البحر الملح عذبا في مكانه، وذلك من كمال قدرته تعالى، وبالغ حكمته - عز وجل - فإن العذوبة والملوحة ليستا بسبب طبيعة الأرض ولا بسبب طبيعة الماء، وإلا لكان الكل عذبا أو الكل ملحا، وذكر في حكمة جعل البحر الكبير ملحا أن لا ينتن بطول المكث وتقادم الدهور، قيل: وهو السر في جعل دمع العين ملحا، وفيه حكم أخرى الله تعالى أعلم بها.

والظاهر أن حجرا عطف على برزخا أي وجعل بينهما هذه الكلمة، والمراد بذلك ما سمعت آنفا، وهو من أبلغ الكلام وأعذبه، وقيل: هو منصوب بقول مقدر، أي: ويقولان: حجرا محجورا، وعن الحسن أن [ ص: 35 ] المراد من الحجر ما حجر بينهما من الأرض، وتقدم تفسيره البرزخ بنحو ذلك، وكأن الجمع بينهما حينئذ لزيادة المبالغة في أمر الحاجز، وما قدمنا أولى وأبعد مغزى، وقيل: المراد بالبرزخ حاجز من قدرته - عز وجل - غير مرئي وبقوله سبحانه: حجرا محجورا التميز التام وعدم الاختلاط، وأصله كلام يقوله المستعيذ لما يخافه كما تقدم تفصيله، وحاصل معنى الآية أنه تعالى هو الذي جعل البحرين مختلطين في مرأى العين ومنفصلين في التحقيق بقدرته - عز وجل - أكمل انفصال، بحيث لا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب، ولا يتغير طعم كل منهما بالآخر أصلا.

وحكي هذا عن الأكثرين، وفيه أنه خلاف المحسوس؛ فإن الأنهار العظيمة كدجلة وما ينضم إليها والنيل وغيرهما - مما يشاهده الناس - إذا اتصلت في البحر تغير طعم غير قليل منها في جهة المتصل، وكذا يتغير طعم غير قليل من البحر في جهة المتصل أيضا، ويختلف التغير قلة وكثرة باختلاف الورود لاختلاف أسبابه من الهواء وغيره قوة وضعفا، كما أخبر به مبلغ التواتر، ولم يخبر أحد أنه شاهد في الأرض بحرين أحدهما عذب والآخر ملح، وقد اتصل أحدهما بالآخر من غير تغير لطعم شيء منهما أصلا، ولا مساغ عند من له أدنى ذوق لجعل الآية في بحرين في الأرض كذلك، لكنهما لم يشاهدهما أحد كما لا يخفى، ولا أرى وجها لتفسير الآية بما ذكر، والتزام هذا ونحوه من التكلفات الباردة مع ظهور الوجه الذي لا كدورة فيه عند المنصف إلا تسبب طعن الكفرة في القرآن العظيم وسوء الظن بالمسلمين.

وقيل: المراد بالبرزخ الواسطة، أي وجعل بين البحر العذب الشديد العذوبة والبحر الملح الشديد الملوحة ماء متوسطا ليس بالشديد العذوبة ولا بالشديد الملوحة، وهو قطعة من العذب الفرات عند موضع التلاقي مازجها شيء من الملح الأجاج فكسر سورة عذوبتها، وقطعة من الملح الأجاج عند موضع التلاقي أيضا مازجها شيء من العذب الفرات فكسر سورة ملوحتها، ويكون التنافر البليغ بينهما المفهوم من قوله سبحانه: وحجرا محجورا فيما عدا ذلك، وهو ما لم يتأثر بصاحبه منهما، بل يبقى على صفته من العذوبة الشديدة والملوحة الشديدة، وهو كما ترى، وحكي في البحر أن المراد بالبحرين بحران معينان هما بحر الروم وبحر فارس.

وذكره في الدر المنثور عن الحسن برواية ابن أبي حاتم ، وهو من العجب العجاب؛ لأن كلا هذين البحرين ملح أجاج فكيف يصح إرادتهما هنا مع قوله تعالى: هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج نعم، قد يصح فيما سيأتي - إن شاء الله تعالى - من آية سورة الرحمن، أعني قوله سبحانه: مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان لعدم ذكر ما يمنعه هناك، وما روي عن الحسن - إن صح - فلعله في تلك الآية، ووهم السيوطي في روايته في الكلام على هذه الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير أن البحرين هما بحر السماء وبحر الأرض، وذكر مثله في البحر، عن ابن عباس ، وأنهما يلتقيان كل عام، وهذا شيء أنا لا أقول به في الآية، ولا أعتقد صحة روايته عمن سمعت، وإن كان مناسبة الآية عليه لما تقدم من قوله تعالى: وأنزلنا من السماء ماء طهورا على القول بأن المطر من بحر في السماء أتم، ودلالتها على كمال قدرته تعالى أظهر، وأما أنت فبالخيار، والله تعالى ولي التوفيق.

التالي السابق


الخدمات العلمية